كأن أورسون ويلز (1915 ـ 1985)، لشدّة مكابدته مع الاستديوهات والمنتجين، كان يتنبّأ، في فيلمه القديم ـ الحديث "الجانب الآخر للريح" (2018)، بمصير هذا الفيلم تحديدًا، الذي لم يكن انتهى من صنعه. كأنه كان يكتب سيرة شبه ذاتية لمسيرته المهنية، ورحلة كفاحه الشاقّ مع المنتجين والاستديوهات، ومع من أعاق وعطّل وأفسد مشاريع كثيرة له.
لكن حظّ "الجانب الآخر للريح" ـ المعروض في برنامج "حدث خاص"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ أكبر بكثير من غالبية أعماله غير المكتملة ومشاريعه المُجهضة. فأورسون ويلز انتهى من تصويره فعليًا، ولديه مادة بصرية مؤلّفة من مئة ساعة تقريبًا، أي أكثر مما كان محتاجًا إليه. رغم ذلك، لم يكتمل الفيلم، كأنه كان يتماهى مع موضوع حبكته: مُخرج سينمائي معروف يُدعى جاك هانّافورد (جون هيوستن) يُصوِّر مشاهد فيلمه الأحدث، العائد بفضله إلى السينما بعد توقّف طويل، وهو بعنوان "الجانب الآخر للريح"، بطولة جون دايل (بوب راندوم)، الذي وضع الفيلم في مأزق كبير، بعد اختفائه في ظروف غامضة، تاركًا التصوير قبل اكتماله. هذا أثار غضب المنتج الذي اقترح مع المخرج بدائل ربما تكون مفيدة.
لمعرفة آرائهم بخصوص ما صوَّره، وللاحتفال بعيد ميلاده في الوقت نفسه، دعا هانّافورد إلى مزرعته أصدقاء ومساعدين له، بالإضافة إلى المنتج ونقاد سينمائيين ومخرجين، منهم من ظهر في الفيلم بشخصيته الحقيقية، ككلود شابرول ودينيس هوبر وفرانك مارشال وغيرهم. شخصية أخرى مُهمّة تبدو بمثابة ذاته أو انعكاسًا له: كاتب سيرته والمخرج بروكس أوترلايك (بيتر بوغدانوفيتش).
في الفيلم نقاط قوّة وضعف، يتركّز معظمها على رسم الشخصيات وتعميقها. مع ذلك، فهو لا يخلو من شخصيات حية. النقد الذاتي الموجه إلى أو الصادر من تلك الشخصيات حاضر بدوره، ويصل إلى حدّ تجريح الذات وتعريتها، وإلى محاسبة النفس وفضحها، وإلى السخرية من المجتمع وطبقاته، والأصدقاء ورفاق العمل واستديوهات هوليوود. ولم تسلم السينما الجديدة آنذاك وتجاربها المُختلفة من نقده المُباشر ذاك.
اقــرأ أيضاً
تقنيًا، يُدهَش المرء من قدرة أورسون ويلز على إثارة الدهشة لغاية الآن، بحداثة "الجانب الآخر للريح" وحيويته وجِدّته، إلى درجة طرح سؤالين اثنين: كيف سَبَق عصره هكذا؟ كيف يخلو الحاضر من عبقرية سابقة عصرها؟ استخدم ويلز التقنيات والحيل السينمائية كلّها: من الأسود والأبيض إلى الألوان، والانتقال بينهما. المونتاج المفاجئ والانتقالات السريعة. الفيلم داخل الفيلم. حركات متنوّعة للكاميرا، ولقطات مُقرَّبة، وتوظيف عدسات. السينما التسجيلية. الواقعية والسوريالية والتجريبية.
فنيًا، يجمع الفيلم بين الفيديو المنزلي والأفلام المصوَّرة في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته (تدور الأحداث في السبعينيات، زمن تصوير مقاطع الفيلم). هناك أيضًا الأفلام التجارية الرخيصة، واستخدام لافتات سوداء مكتوب عليها "مقطع محذوف". لكن هذا الأمر غير واضح: هل هو من صنيع ويلز نفسه، أم ماذا؟
قدّم أورسون ويلز هذا كلّه في سيناريو مركَّب ومُعقّد ومتداخل. يبدو مُشوَّشًا بعض الشيء، والمُشاهد يحتاج إلى تركيز كبير في بداية الفيلم، وإلى ربط الخيوط كي لا يتوه وتلتبس عليه الشخصيات والحبكة، فينتفي كلّ استمتاع. الفيلم والسيناريو غير خطيَّين نهائيًا، ولا التزام فيهما بأي شيء. للحظات كثيرة، هناك شعور طاغٍ بأن الفيلم هو "8 ونصف" (1963) لفيدريكو فيلّيني (1920 ـ 1993)، مع عجز غويدو انْسَالمي (مارتشيلّو ماستروياني) عن إخراج فيلمه. هذا حاصلٌ مع جاك هانّافورد في "الجانب الآخر للريح". الفرق أن هانّافورد عاجز عن إكمال ما أنجزه، بينما يُعيد فيلّيني الأسباب إلى ماضي المخرج، إلى طفولته تحديدًا، بينما لا يُحيل ويلز عجز مخرجه إلى أسباب مُحدّدة، فربما يكمن السبب في فرار الممثل، أو نضوب القريحة، أو انتفاء الثقة بالنفس، أو مشاكل إنتاجية، إلخ.
لإحداث هذا التماس غير المقصود (ربما) مع عالم فيلّيني، تظهر في حفلة هانّافورد مفردات عديدة موجودة في أفلامٍ مختلفة لفيلّيني، خصوصًا مع انتقال هانّافورد والأصدقاء إلى منزل المزرعة للاحتفال بعيد ميلاده، ومحاولة مُشاهدة فيلمه غير المكتمل، التي تتوقّف مرات عديدة لانقطاع التيار الكهربائي. يبلغ الفيلم الأصلي أو الرئيسي ذروته هناك في الحفلة، مع الحوارات الكثيرة والهذيان والأجواء المُختلطة والمختلّة والمتشابكة، والإهانات والمديح والنفاق والتجريح والسُكر والعربدة. أقزام عابرون لا تُدرَك صلتهم بالفيلم للوهلة الأولى، كمشاهد وشخصيات مختلفة لا يُعرف من أين أتت، ولا غرضها تحديدًا. لكنها، رغم ذلك، من المشاهد الأمتع والأعمق، التي تُشكّل جزءًا رائعًا من الفسيفساء ذات "الفوضى المنظّمة" التي صنعها ويلز باقتدار في منزل المزرعة.
تلك "الفوضى المنظّمة" يمكن فهم مُفرداتها وتأويلها عند تتبّع كل مُفردة تكوِّن تلك الفسيفساء المركبة. ما يُثير الانتباه أن الأكثر غرائبية والتباسًا وتداخلاً في فيلم أورسون ويلز هو الفيلم غير المُكتمل الذي يشاهدونه، وهذا غير عائدٍ إلى عدم اكتماله، فهو بسيط وواضح للغاية، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ يستعصي على التأويل والتفسير. وأحداثه تتناول حكاية فتاة (أويا كُدَار) تُطارِد بشهوانية شابًا يَتَملَّص منها. مُطاردة غريبة يخلو منها أي عنصر بشريّ أو حيّ باستثنائهما، تحدث تارة في استديو التصوير وتارة أخرى في الصحراء. ينتهي هذا الفيلم غير المكتمل (وهو داخل الفيلم الرئيسي غير المكتمل أيضًا) بمشهد صحراوي "ويلزي" بديع يندر تكراره.
اقــرأ أيضاً
لكن، هل كان أورسون ويلز يصعِّب السينما التي ظلّ يتعقّبها ويتتبّعها طول حياته، وتهرب وتتملّص منه؟ هل المقصود إبداع قصة عصرية تحيل إلى قصّة آدم وحواء؟ أم أن صنعه كنوع من التكريم لرفيقة وحبيبة أعوامه الأخيرة، المُمثلة وبطلة الفيلم أويا كُدَار؟ يصعب التكهّن بما كان يدور في ذهنه حينها.
تلك الأسئلة تولِّد مزيدًا من الأسئلة. أولها شديد التعقيد والتركيب، تستحيل الإجابة عليه: هل تلك النسخة هي التي أرادها ويلز وكانت في ذهنه تحديدًا، وتلك هي الكيفية التي أرادها لفيلمه؟ الاستحالة مردّها أن ويلز رحل من دون إكمال العمل (لأسباب عديدة منها مشاكله مع المنتجين)، تاركًا "النيغاتيفات" مع كُدَار نفسها، التي سمحت مؤخّرًا (بعد محاولات سابقة غير ناجحة) أن يتولّى المُنتج والمُمثل والمُخرج بيتر بوغدانوفيتش إنهاءه مع المولِّف روبرت موراوسكي، بعد الاطلاع على ما تبقى من سيناريو الفيلم، والملاحظات التي تركها ويلز قبل وفاته.
لمعرفة آرائهم بخصوص ما صوَّره، وللاحتفال بعيد ميلاده في الوقت نفسه، دعا هانّافورد إلى مزرعته أصدقاء ومساعدين له، بالإضافة إلى المنتج ونقاد سينمائيين ومخرجين، منهم من ظهر في الفيلم بشخصيته الحقيقية، ككلود شابرول ودينيس هوبر وفرانك مارشال وغيرهم. شخصية أخرى مُهمّة تبدو بمثابة ذاته أو انعكاسًا له: كاتب سيرته والمخرج بروكس أوترلايك (بيتر بوغدانوفيتش).
في الفيلم نقاط قوّة وضعف، يتركّز معظمها على رسم الشخصيات وتعميقها. مع ذلك، فهو لا يخلو من شخصيات حية. النقد الذاتي الموجه إلى أو الصادر من تلك الشخصيات حاضر بدوره، ويصل إلى حدّ تجريح الذات وتعريتها، وإلى محاسبة النفس وفضحها، وإلى السخرية من المجتمع وطبقاته، والأصدقاء ورفاق العمل واستديوهات هوليوود. ولم تسلم السينما الجديدة آنذاك وتجاربها المُختلفة من نقده المُباشر ذاك.
تقنيًا، يُدهَش المرء من قدرة أورسون ويلز على إثارة الدهشة لغاية الآن، بحداثة "الجانب الآخر للريح" وحيويته وجِدّته، إلى درجة طرح سؤالين اثنين: كيف سَبَق عصره هكذا؟ كيف يخلو الحاضر من عبقرية سابقة عصرها؟ استخدم ويلز التقنيات والحيل السينمائية كلّها: من الأسود والأبيض إلى الألوان، والانتقال بينهما. المونتاج المفاجئ والانتقالات السريعة. الفيلم داخل الفيلم. حركات متنوّعة للكاميرا، ولقطات مُقرَّبة، وتوظيف عدسات. السينما التسجيلية. الواقعية والسوريالية والتجريبية.
فنيًا، يجمع الفيلم بين الفيديو المنزلي والأفلام المصوَّرة في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته (تدور الأحداث في السبعينيات، زمن تصوير مقاطع الفيلم). هناك أيضًا الأفلام التجارية الرخيصة، واستخدام لافتات سوداء مكتوب عليها "مقطع محذوف". لكن هذا الأمر غير واضح: هل هو من صنيع ويلز نفسه، أم ماذا؟
قدّم أورسون ويلز هذا كلّه في سيناريو مركَّب ومُعقّد ومتداخل. يبدو مُشوَّشًا بعض الشيء، والمُشاهد يحتاج إلى تركيز كبير في بداية الفيلم، وإلى ربط الخيوط كي لا يتوه وتلتبس عليه الشخصيات والحبكة، فينتفي كلّ استمتاع. الفيلم والسيناريو غير خطيَّين نهائيًا، ولا التزام فيهما بأي شيء. للحظات كثيرة، هناك شعور طاغٍ بأن الفيلم هو "8 ونصف" (1963) لفيدريكو فيلّيني (1920 ـ 1993)، مع عجز غويدو انْسَالمي (مارتشيلّو ماستروياني) عن إخراج فيلمه. هذا حاصلٌ مع جاك هانّافورد في "الجانب الآخر للريح". الفرق أن هانّافورد عاجز عن إكمال ما أنجزه، بينما يُعيد فيلّيني الأسباب إلى ماضي المخرج، إلى طفولته تحديدًا، بينما لا يُحيل ويلز عجز مخرجه إلى أسباب مُحدّدة، فربما يكمن السبب في فرار الممثل، أو نضوب القريحة، أو انتفاء الثقة بالنفس، أو مشاكل إنتاجية، إلخ.
لإحداث هذا التماس غير المقصود (ربما) مع عالم فيلّيني، تظهر في حفلة هانّافورد مفردات عديدة موجودة في أفلامٍ مختلفة لفيلّيني، خصوصًا مع انتقال هانّافورد والأصدقاء إلى منزل المزرعة للاحتفال بعيد ميلاده، ومحاولة مُشاهدة فيلمه غير المكتمل، التي تتوقّف مرات عديدة لانقطاع التيار الكهربائي. يبلغ الفيلم الأصلي أو الرئيسي ذروته هناك في الحفلة، مع الحوارات الكثيرة والهذيان والأجواء المُختلطة والمختلّة والمتشابكة، والإهانات والمديح والنفاق والتجريح والسُكر والعربدة. أقزام عابرون لا تُدرَك صلتهم بالفيلم للوهلة الأولى، كمشاهد وشخصيات مختلفة لا يُعرف من أين أتت، ولا غرضها تحديدًا. لكنها، رغم ذلك، من المشاهد الأمتع والأعمق، التي تُشكّل جزءًا رائعًا من الفسيفساء ذات "الفوضى المنظّمة" التي صنعها ويلز باقتدار في منزل المزرعة.
تلك "الفوضى المنظّمة" يمكن فهم مُفرداتها وتأويلها عند تتبّع كل مُفردة تكوِّن تلك الفسيفساء المركبة. ما يُثير الانتباه أن الأكثر غرائبية والتباسًا وتداخلاً في فيلم أورسون ويلز هو الفيلم غير المُكتمل الذي يشاهدونه، وهذا غير عائدٍ إلى عدم اكتماله، فهو بسيط وواضح للغاية، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ يستعصي على التأويل والتفسير. وأحداثه تتناول حكاية فتاة (أويا كُدَار) تُطارِد بشهوانية شابًا يَتَملَّص منها. مُطاردة غريبة يخلو منها أي عنصر بشريّ أو حيّ باستثنائهما، تحدث تارة في استديو التصوير وتارة أخرى في الصحراء. ينتهي هذا الفيلم غير المكتمل (وهو داخل الفيلم الرئيسي غير المكتمل أيضًا) بمشهد صحراوي "ويلزي" بديع يندر تكراره.
لكن، هل كان أورسون ويلز يصعِّب السينما التي ظلّ يتعقّبها ويتتبّعها طول حياته، وتهرب وتتملّص منه؟ هل المقصود إبداع قصة عصرية تحيل إلى قصّة آدم وحواء؟ أم أن صنعه كنوع من التكريم لرفيقة وحبيبة أعوامه الأخيرة، المُمثلة وبطلة الفيلم أويا كُدَار؟ يصعب التكهّن بما كان يدور في ذهنه حينها.
تلك الأسئلة تولِّد مزيدًا من الأسئلة. أولها شديد التعقيد والتركيب، تستحيل الإجابة عليه: هل تلك النسخة هي التي أرادها ويلز وكانت في ذهنه تحديدًا، وتلك هي الكيفية التي أرادها لفيلمه؟ الاستحالة مردّها أن ويلز رحل من دون إكمال العمل (لأسباب عديدة منها مشاكله مع المنتجين)، تاركًا "النيغاتيفات" مع كُدَار نفسها، التي سمحت مؤخّرًا (بعد محاولات سابقة غير ناجحة) أن يتولّى المُنتج والمُمثل والمُخرج بيتر بوغدانوفيتش إنهاءه مع المولِّف روبرت موراوسكي، بعد الاطلاع على ما تبقى من سيناريو الفيلم، والملاحظات التي تركها ويلز قبل وفاته.