توفر هذه الأغاني/الموسيقى قوة عاطفية للأفلام وتمنحها السردية المطلوبة، إلى جانب التمثيل، لترتبط وتتصل مع المشاهد على أكثر من مستوى. تضيف الموسيقى التصويرية بعداً إضافياً للأفلام، وبدلاً من الاكتفاء بجذب الحواس البصرية للمشاهدين، فإن الموسيقى تستميل حواسه البصرية والسمعية في آن.
الأمر علميّ تمامًا، فكلما زاد عدد الحواس المتفاعلة، وجد المشاهد الفيلم أكثر إثارة، وهناك عدة طرق لاستخدام الموسيقى التصويرية في الأفلام. تُستخدم مثلاً لصناعة جو من التوتر عبر نوع من معين أو نمط معين من الموسيقى، أو عبر استخدام صوت نبضات القلب لزيادة معدل دقاته لدى المشاهد، أو حتى عبر الاستخدام الفني للصمت/السكون (شكل من أشكال الموسيقى) لتترك المشاهد في حالة دهشة وترقّب. لهذا، تعد الموسيقى التصويرية مهمة، وأحجية سحرية في الأفلام، ومن دونها تفتقد السينما لبعدٍ كاملٍ، ما يُصعب عملية اندماج المُشاهد مع المشاهد المعروضة وكذلك تصعب عملية نقل المشاهد من واقعهِ إلى عالم الفيلم.
هنا، في هذا السياق، نستحضر المخرج الأميركي ستانلي كوبريك (1928 - 1999)، الذي مرّت هذه السنة تسعون عاماً على رحيله. يُشاع أن كوبريك كان يجبر طاقم أي فيلم ينوي تصويره على الاستماع إلى موزارت قبل البدء في التصوير. مما لا شك فيه أن الموسيقى عنصر حيوي في أفلام صاحب "لوليتا"، فهي تلعب دوراً كبيراً في أعماله، مثل دور جاك نيكلسون في The Shining.
في فيلمه 2001: A Space Odyssey، الذي أنتجه عام 1968، ابتعد كوبريك عن الموسيقى التصويرية الحركية المعروفة التي استخدمها في فيلم Dr. Strangelove. استخدم كوبريك نوتات/معزوفات هادئة من الموسيقى الكلاسيكية التي غيرت بدورها أسلوب أفلامه.
لم تعزز هذه الموسيقى قيمة الأحداث في الفيلم بقدر ما ساعدت على تعميق الحبكة، إلى الدرجة التي صارت فيها الموسيقى أمراً ضرورياً في قصص كوبريك. تكاد الموسيقى أن تنفصل عن الفيلم، لتردّد صداها داخل عقل المشاهد، وتقوده إلى التفكير بشكل مختلف، وتضيف بعداً آخر إلى الحبكة والشخصيات.
صورة القرود التي كانت تعوي فرحاً في مشهد البداية في فيلم 2001: A Space Odyssey عند اكتشافها أنه بإمكانها استخدام العظام كأسلحة (والتي غيرت مسار الجنس البشري إلى الأبد)، لهي استعارة وكناية عن اكتشاف كوبريك لقدرة الموسيقى وأهميتها في الأفلام، وعما فعله كوبريك في استخدامه للموسيقى التصويرية في أول 25 دقيقة من الفيلم.
من دون الموسيقى التصويرية، كانت أفلام كوبريك لتخسر ما يميزها عبر استخدامه للتجاور الاستعاري (juxtaposition). فبعد مشهد القردة في الفيلم نفسه، تتناهى إلى أسماعنا معزوفة يوهان شتراوس الإيقاعية، "الدانوب الأزرق"، متصاحبة مع مشهد سفينة الفضاء التي تسبح بهدوء في نسيج الفضاء المعتم والحالك.
يأتي هذا المشهد ليعبر عن التطور التكنولوجي البارز ودرجة الرقي الفنية التي وصل إليها الإنسان، وتأتي هذه المشاهد مباشرة بعد مشهد استخدام القردة للعِظَام كسلاح لتهاجم بعضها بعضاً، وهو ما يعبّر عن شكل من أشكال المفارقة. يقول كوبريك: "ليس من السهل أن أجد مقطوعة تنافس مقطوعة الدانوب الأزرق في قدرتها على تصوير سبر أغوار الفضاء وجماله".
بقفزه من مشهد القردة التي ترمي العظام إلى السماء، إلى مشهد سفينة الفضاء التي تشبه العظام، أعطانا كوبريك أكبر قفزة زمنية في تاريخ السينما (ثلاثة ملايين سنة). وحسب الرواية الأصلية، فإن هذه السفن الفضائية كانت تحمل أسلحة نووية، إلا أن كوبريك ألغاها من الفيلم، لأنه لم يرد أن يستحضر أي مشاهد من فيلم Dr. Strangelove.
هنا، يدفعنا كوبريك إلى أن نفكّر في مسألة تطورنا وتحضّرنا. والموسيقى الإيقاعية بشكل أساسي، تشير إلى قيمة الأخلاق لا الحضارة. وقبل كل تلك المشاهد، يجعلنا كوبريك نشاهد، ولمدة ثلاث دقائق، شاشة سوداء مصحوبة بمعزوفة Atmospheres لـ جيورجي ليجيتي. معزوفة ديستوبية ومثيرة للتوتر، وكان لاستخدام هذه الشاشة وهذه الموسيقى هدف ووظيفة: على كل من يرغب في المشاهدة، أن يفقد الأمل.
كل المقطوعات والمعزوفات التي استعملها كوبريك كانت مسجلة مسبقاً، ولم يقم بإعادة تسجيلها، حتى إنه استخدم موسيقى ليجيتي من دون أخذ الأذن منه؛ ما دفع الملحن المجري إلى مقاضاته. وبعد عقد تسوية بينه وبين الملحن، استخدم كوبريك نفس الموسيقى في أفلامه اللاحقة.
في تحفته الأخيرة، (1999) Eyes Wide Shut، الذي رحل بعد أن أتمّ نسخته النهائية بأربعة أيام، كان للموسيقى التصويرية فيهِ قصة أخرى. تروي جوسلين بوك (مؤلفة الموسيقى التصويرية في الفيلم): "نظر إليّ كوبريك، وقال لي: هيا بنا نؤلف موسيقى جنسية. فقلت في نفسي وقتها: ما هي الموسيقى الجنسية بحق الجحيم؟ لم يجبني كوبريك، ولم يوضح لي ما أراد، ووثق في قدرتي على إجابة السؤال بنفسي".
كانت الإجابة أكثر أنواع الموسيقى السوداوية والتجريبية التي استخدمها كوبريك في أفلامهِ. بالتأكيد، استخدم كوبريك موسيقى غريبة في أفلامه من قبل (معزوفة ويندي كارلوس في فيلم The Shining، على سبيل المثال)، ولكن لم يكن هناك أي موسيقى متقنة أو شريرة مثل المقطوعات الموسيقية السردية المركزية الأربع التي ألّفتها بوك لفيلم Eyes Wide Shut. في أحد المشاهد، في بداية الفيلم، حيث يتخيل دكتور بيل (توم كروز) زوجته أليس (نيكول كيدمان) وهي تمارس الجنس مع بحارٍ ما، تستخدم موسيقى بوك التصويرية الشبيهة بالحلم الأوتار لتنتقل من الهدوء إلى الفوضى، لتظهر إحساس الشخصية بالبارانويا. هذه الموسيقى تجعلك تشعر وكأنك تنتقل من هدوء وسكينة الحلم الواعي (Lucid dream) إلى أزمة وجودية حقيقية.
وفي المشهد الأكثر شهرة في الفيلم، عندما يتسلل الدكتور بيل إلى حفلة سرية (مُقنّعة)، ويلاحظ طقساً غريباً يتكشف أمامه. هنا، يستدعي رجل يرتدي عباءة حمراء مجموعة من الأشخاص الذي يرتدون أقنعة شيطانية، على غرار الأقنعة التي تستخدم في البندقية، والذين يبدؤون بخلع ملابسهم وتقبيل بعضهم بعضاً.
في الوقت نفسه، تدفعهم الموسيقى الكابوسية نحو الحركة أكثر فأكثر. تلاحظ مجموعة من النساء العاريات على الجانب الآخر، غرفة مليئة بنخبة المجتمع، وكل منهم يخفي هويتهِ من خلال ارتداء أقنعة مبهرجة. لكن، ومع تكشف هذا المشهد الغريب، تنقل موسيقى بوك المشاهدين إلى مكان غريب حقاً بدرجة غرابة موسيقى ليفي التصويرية في فيلم تحت الجلد (2014) Under The Skin.
تستند فكرة المعزوفة على مجموعة الرهبان الرومانيين الذين يغنون الليتورغيوس الأرثوذكسي، والتي شُغّلت بشكل عكسي (من النهاية إلى البداية). إن موسيقى بوك التصويرية للحفلة المقنَّعة آتية من عالم آخر، حيث تنتقل بالمشاهد بين الجحيم والفردوس. موسيقى لا تُنسى قطعاً. تشرح بوك: "أعلم أن الموسيقى كانت مزعجة ومقلقة، لكنني أردت أيضاً أن تقوم الأوتار بإنشاء هذا السحر، إذ عندما يأتي يعلو صوت الكاهن وتزداد حدتهِ، فإنه ينقلك إلى مكان جميل".
تختتم بوك: "لقد بين لي كوبريك مدى أهمية الانغماس النفسي عاطفياً وفكرياً في المقطوعات التي يجب أن أعمل عليها، من دون ذلك ومن دون كوبريك، كانت أعمالي لتكون سطحية وعادية. لقد كان فناناً حقيقياً".
يُجمع كثيرون على أن أفلام ستانلي كوبريك كانت ثورية في عالم صناعة السينما على مستوى الحبكة والإنتاج، وطريقة استخدامه للموسيقى التصويرية في أفلامه جعلتنا نقدر هذا المخرج والفنان أكثر فأكثر.
جعل كوبريك الموسيقى في الأفلام ذات مغزى ورسالة وليست مجرد ديكور لتعبئة الفراغ، والآن لا يمكننا حتى أن نتخيل فيلماً بدونها، حتى تلك الأفلام الخالية من الحوارات. يقول كوبريك: "يجب على الفيلم أن يبدو مثل الموسيقى لا الرواية؛ فهو سيرورة لكل الأمزجة والعواطف. أما الموضوع، وما وراء العاطفة، والمعنى، كل ذلك يأتي لاحقاً".