إنها المرة الثانية التي يُعلن فيها الممثل دانيال داي ـ لويس (مواليد لندن، 29 إبريل/ نيسان 1957) نيّته اعتزال التمثيل. فالأولى تعود إلى نهاية تسعينيات القرن الـ 20، بعد التصوير "العاصف" لـ"الملاكم" (1997) لجيم شيريدان (1949)، الذي عمل بإدارته في "قدمي اليُسرى" (1989) و"باسم الأب" (1993). يومها، انتقل إلى إيطاليا، مبيّناً عن رغبته في أن يُصبح "صانع أحذية".
لكنه عاد إلى بلاتوهات السينما، "تلبية" لرغبة مارتن سكورسيزي (1942) في أن يؤدّي دور ويليام كاتنغ (بِل الجزّار)، في "عصابات نيويورك" (2002): "قدَّم داي لويس أحد عروضه الأكثر هذيانيّة، بتأديته شخصية جزّار دمويّ" (فريدريك فوبير، المجلة السينمائية الشهرية "بروميير"، فبراير/ شباط 2018).
متابعو حركة الإنتاج السينمائي معتادون على الاستماع إلى تصريحاتٍ مُشابهة، لكنهم يعتبرونها "مجرّد كلامٍ في الهواء". بعضهم استعاد حالة فرانك سيناترا (1915 ـ 1998)، الذي قال، عام 1971، إنه "مُتعبٌ"، وإنه يريد تحقيق تقدِّمٍ في رياضة الـ "غولف"، وإنه يريد "الانسحاب بهدوء". بعد عامين اثنين فقط، أعلن أنه "غير موهوبٍ" في هذه الرياضة: "لذا، سأعود إلى العمل".
في السينما، هناك أناس "يعشقون ممارسة هذه اللعبة: إعلان الاعتزال في لحظة صاخبة بالنشاط، لرفع نسبة الشعبيّة، أو لتفعيل جولات ترويجية، أو لتسليطِ مزيدٍ من الأضواء عليهم"، كما يُردِّد عاملون في صناعة السينما، متذكّرين حالات ستيفن سودربيرغ (1963) ولوك بوسّون (1959) وهاياوو ميازاكي (1941).
هذه المرّة، يبدو الأمر محسومًا، بالنسبة إلى دانيال داي ــ لويس، الذي أعلن أن "الخيوط الوهمية" (2017) لبول توماس أندرسن (1970)، سيكون فيلمه الأخير: "إنه لا يمزح البتّة"، كما قال مقرّبون إليه؛ أو كما كتب فريدريك فوبير نفسه: "الإعلان الجديد عن وداعه السينما يُشبه القرار المُبرم، الذي لا عودة عنه أبدًا، لغاربو". فغريتا غاربو (1905 ـ 1990) ابتعدت كلّيًا عن السينما والاجتماع والإعلام، بعد شرائها منزلاً في نيويورك، في خمسينيات القرن الفائت، وإقامتها فيه حتى رحيلها، بعد اعتبارها أن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) زلزلت العالم إلى الأبد، وأن لأفلامها "مكانة خاصّة في التاريخ"، وأنها "تكسب قيمتها دائمًا". قرار غاربو ناتجٌ من تعبها من المهنة، ومن ضغوط مفرطة عليها، كما قيل حينها.
اقــرأ أيضاً
أثناء توليفه "الخيوط الوهمية"، ثاني تعاون له مع دانيال داي لويس بعد "ستكون هناك دماء" (2007)، تناهى إلى سمع بول توماس أندرسن خبر اعتزال داي ـ لويس، الحامل 3 جوائز "أوسكار" في فئة أفضل ممثل: "قدمي اليُسرى" (دورة عام 1990)، و"ستكون هناك دماء" (دورة عام 2008)، و"لينكولن" (2012) لستيفن سبيلبيرغ (دورة عام 2013): "حينها، أصرّ داي ـ لويس على تأكيد الخبر، وعلى القول إن القرار شخصيٌّ جدًا، وعلى أنه لن يُعلِّق على الموضوع أبدًا".
في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، استعاد الممثل، في حوار منشور في المجلة الشهرية الأميركية “W”، المتخصّصة بالأزياء، قراره هذا: "قبل تصوير "الخيوط الوهمية"، لم أكن أعرف أني سأتوقّف عن التمثيل. ضحكنا كثيرًا، بول وأنا، أثناء التحضيرات. ثم، توقّفنا عن الضحك، وغرقنا في شعورٍ كبيرٍ من الحزن. هذا جاءنا فجأة: لم نُدرك ما الذي أنجبناه. هذا يصعُبُ العيش معه. هذا لا يزال لغاية الآن يصعُبُ العيش معه". ثم قال: "هذه الرغبة في التوقّف انغرست فيّ، ولم تتركني البتّة. لن أشاهد "الخيوط الوهمية". لم يُغادرني الحزن".
ضجرٌ أو اكتئابٌ أو احتراقٌ مطلق في المهنة؟
تساؤلات ـ ألغاز، يُمكن اختزالها بواحدٍ واقعيّ: "ما الذي جرى أثناء التصوير، كي تنقلب الأمور كلّها رأسًا على عقب، بشكل مفاجئ، ما دفع دانيال داي ـ لويس إلى الاستسلام"؟ المعروف أن الممثل منخرطٌ بكلّيته في أي دور يوافق على تأديته. يغوص فيه حتى الثمالة، ويشتغل تفاصيله بحرفية تتطلّب منه نوعًا من امّحاء ذاتيّ لمصلحة الشخصية وروحها ومسالكها وتصرّفاتها وأهوائها ومتطلّباتها. هذا مُنهكٌ للغاية. يقول أندرسن إنه "يعشق التمثيل إلى درجة أن التمثيل يلتهمه، وهذا يؤدّي إلى عواقب غير متوقّعة". ربما لهذا، اكتفى الممثل بـ7 أفلامٍ فقط في 20 عامًا.
رغم كلّ شيء، سيبقى "الخيوط الوهمية" في التاريخ السينمائي "الفيلم الذي شَهِد لحظة الترنّح، التي أصابت شعلة التمثيل لدى دانيال داي ـ لويس، قبل أن تخمد".
يقول أندرسن إنّ مشهد "طبخ الهليون" هو "مشهد اتّخاذ القرار"، وفيه يظهر داي ـ لويس وفيكي كريبس (1983) وهما يتجادلان حول كيفية إعداد صحن الهليون، بالزيت أو بالزبدة: "يبدو غبيّا قول هذا"، كما كتب فريدريك فوبير، مضيفًا: "لكن تذكّروا أننا نتكلّم عن سينمائيّ مشهور بصنعه مشهد هطول ضفادع (ماغنوليا، 1999)، وبإنهائه "أوديسه" حول "السعي وراء الذهب" في صالة "بولينغ"، حيث يصيح الممثل بجملته الخالدة: "أنا أحتسي لَبَنك المخفوق" (ستكون هناك دماء)".
إنْ يكن السبب "إعداد الهليون" أو لا، فالمؤكّد ـ لغاية الآن على الأقلّ ـ أن قرار الاعتزال "نهائيٌّ". هذا يُفقِد فنّ التمثيل أحد كباره، باكراً.
متابعو حركة الإنتاج السينمائي معتادون على الاستماع إلى تصريحاتٍ مُشابهة، لكنهم يعتبرونها "مجرّد كلامٍ في الهواء". بعضهم استعاد حالة فرانك سيناترا (1915 ـ 1998)، الذي قال، عام 1971، إنه "مُتعبٌ"، وإنه يريد تحقيق تقدِّمٍ في رياضة الـ "غولف"، وإنه يريد "الانسحاب بهدوء". بعد عامين اثنين فقط، أعلن أنه "غير موهوبٍ" في هذه الرياضة: "لذا، سأعود إلى العمل".
في السينما، هناك أناس "يعشقون ممارسة هذه اللعبة: إعلان الاعتزال في لحظة صاخبة بالنشاط، لرفع نسبة الشعبيّة، أو لتفعيل جولات ترويجية، أو لتسليطِ مزيدٍ من الأضواء عليهم"، كما يُردِّد عاملون في صناعة السينما، متذكّرين حالات ستيفن سودربيرغ (1963) ولوك بوسّون (1959) وهاياوو ميازاكي (1941).
هذه المرّة، يبدو الأمر محسومًا، بالنسبة إلى دانيال داي ــ لويس، الذي أعلن أن "الخيوط الوهمية" (2017) لبول توماس أندرسن (1970)، سيكون فيلمه الأخير: "إنه لا يمزح البتّة"، كما قال مقرّبون إليه؛ أو كما كتب فريدريك فوبير نفسه: "الإعلان الجديد عن وداعه السينما يُشبه القرار المُبرم، الذي لا عودة عنه أبدًا، لغاربو". فغريتا غاربو (1905 ـ 1990) ابتعدت كلّيًا عن السينما والاجتماع والإعلام، بعد شرائها منزلاً في نيويورك، في خمسينيات القرن الفائت، وإقامتها فيه حتى رحيلها، بعد اعتبارها أن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) زلزلت العالم إلى الأبد، وأن لأفلامها "مكانة خاصّة في التاريخ"، وأنها "تكسب قيمتها دائمًا". قرار غاربو ناتجٌ من تعبها من المهنة، ومن ضغوط مفرطة عليها، كما قيل حينها.
أثناء توليفه "الخيوط الوهمية"، ثاني تعاون له مع دانيال داي لويس بعد "ستكون هناك دماء" (2007)، تناهى إلى سمع بول توماس أندرسن خبر اعتزال داي ـ لويس، الحامل 3 جوائز "أوسكار" في فئة أفضل ممثل: "قدمي اليُسرى" (دورة عام 1990)، و"ستكون هناك دماء" (دورة عام 2008)، و"لينكولن" (2012) لستيفن سبيلبيرغ (دورة عام 2013): "حينها، أصرّ داي ـ لويس على تأكيد الخبر، وعلى القول إن القرار شخصيٌّ جدًا، وعلى أنه لن يُعلِّق على الموضوع أبدًا".
في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، استعاد الممثل، في حوار منشور في المجلة الشهرية الأميركية “W”، المتخصّصة بالأزياء، قراره هذا: "قبل تصوير "الخيوط الوهمية"، لم أكن أعرف أني سأتوقّف عن التمثيل. ضحكنا كثيرًا، بول وأنا، أثناء التحضيرات. ثم، توقّفنا عن الضحك، وغرقنا في شعورٍ كبيرٍ من الحزن. هذا جاءنا فجأة: لم نُدرك ما الذي أنجبناه. هذا يصعُبُ العيش معه. هذا لا يزال لغاية الآن يصعُبُ العيش معه". ثم قال: "هذه الرغبة في التوقّف انغرست فيّ، ولم تتركني البتّة. لن أشاهد "الخيوط الوهمية". لم يُغادرني الحزن".
ضجرٌ أو اكتئابٌ أو احتراقٌ مطلق في المهنة؟
تساؤلات ـ ألغاز، يُمكن اختزالها بواحدٍ واقعيّ: "ما الذي جرى أثناء التصوير، كي تنقلب الأمور كلّها رأسًا على عقب، بشكل مفاجئ، ما دفع دانيال داي ـ لويس إلى الاستسلام"؟ المعروف أن الممثل منخرطٌ بكلّيته في أي دور يوافق على تأديته. يغوص فيه حتى الثمالة، ويشتغل تفاصيله بحرفية تتطلّب منه نوعًا من امّحاء ذاتيّ لمصلحة الشخصية وروحها ومسالكها وتصرّفاتها وأهوائها ومتطلّباتها. هذا مُنهكٌ للغاية. يقول أندرسن إنه "يعشق التمثيل إلى درجة أن التمثيل يلتهمه، وهذا يؤدّي إلى عواقب غير متوقّعة". ربما لهذا، اكتفى الممثل بـ7 أفلامٍ فقط في 20 عامًا.
رغم كلّ شيء، سيبقى "الخيوط الوهمية" في التاريخ السينمائي "الفيلم الذي شَهِد لحظة الترنّح، التي أصابت شعلة التمثيل لدى دانيال داي ـ لويس، قبل أن تخمد".
يقول أندرسن إنّ مشهد "طبخ الهليون" هو "مشهد اتّخاذ القرار"، وفيه يظهر داي ـ لويس وفيكي كريبس (1983) وهما يتجادلان حول كيفية إعداد صحن الهليون، بالزيت أو بالزبدة: "يبدو غبيّا قول هذا"، كما كتب فريدريك فوبير، مضيفًا: "لكن تذكّروا أننا نتكلّم عن سينمائيّ مشهور بصنعه مشهد هطول ضفادع (ماغنوليا، 1999)، وبإنهائه "أوديسه" حول "السعي وراء الذهب" في صالة "بولينغ"، حيث يصيح الممثل بجملته الخالدة: "أنا أحتسي لَبَنك المخفوق" (ستكون هناك دماء)".
إنْ يكن السبب "إعداد الهليون" أو لا، فالمؤكّد ـ لغاية الآن على الأقلّ ـ أن قرار الاعتزال "نهائيٌّ". هذا يُفقِد فنّ التمثيل أحد كباره، باكراً.