عانت الساحة الفنية والثقافية في لبنان، ولا تزال، من نظام الرقابة المُسبقة الذي يمنح جهاز الأمن العام التابع لوزارة الداخلية والبلديات صلاحية التدخل الواسع في مُختلف مراحل إنتاج الأعمال الفنية والأدبية والثقافية. في عملية تُجمع الأطراف المعنية بالحريات العامة في لبنان على تأثيراتها السلبية العميقة التي تُصيب حلقة الإنتاج والإبداع الفكريين.
يشير رئيس مكتب شؤون الإعلام في الأمن العام العميد نبيل حنون، لـ"العربي الجديد" إلى أن "الرقابة المسبقة تهدف إلى وضع مجموعة ضوابط على بعض الأعمال الفنية تجنباً لنشر الفجور أو المساس بالسلم الأهلي أو مقاومة الدعوات غير المؤاتية لصالح لبنان أو العرب وكل ما يُقلل من احترام الأديان"، إلى جانب "حماية الملكية الفكرية والعلامات التجارية وتحصيل الرسوم لصالح الدولة". وتستند الجهات الرسمية المسؤولة عن الرقابة المسبقة إلى "الدستور والعرف الاجتماعي العام" لتحديد المعايير الأخلاقية. وعند تطرق أي عمل فني إلى مسألة دينية، يشير حنون إلى أن "وزير الداخلية أعطى توجيهات للأمن العام بطلب رأي استشاري من الجهات الدينية المعنيّة في المسائل ذات الطبيعة الدينية البحتة". ويشدد حنون على أن "هذه الاستشارة غير مُلزمة ما لم يكن هناك ما قد يؤدي إلى إثارة النعرات المذهبية والطائفية".
انطلاقا من هذه الأُسس التي تفرضها السلطات اللبنانية، ينتقل الحديث مع العميد حنون إلى آليات الرقابة التي "تختلف باختلاف طبيعة العمل الفني نفسه، فالأعمال المقروءة لا تخضع لرقابة مسبقة إلا في حال كانت مُعدة للتصدير إلى الخارج. والعكس صحيح عندما يتم استيراد مواد مطبوعة إلى لبنان يتم منحها إجازة إدخال أو إعادة تصديرها في حال مخالفتها لأي من ضوابط النشر أعلاه". وتخضع الأفلام السينمائية والمسلسلات والأشرطة الغنائية والفيديو كليب والإعلانات للرقابة قبل عرضها على الجمهور وتستحصل على إجازتين: "الأولى للتصوير قبل أن يُعاد مراقبتها من قبل اللجنة المعنية، والتي لا تتبع لجهاز الأمن العام وإنما لمجلس الوزراء كونها مؤلفة من ممثلين عن وزارات الإعلام، الشؤون الإجتماعية، التربية، الاقتصاد، الخارجية، الداخلية". ويقول العميد في الأمن العام إن "اللجنة تُخضع الأفلام السينمائية لمعاير الفئات العمرية لتحديد الأعمار التي يُسمح لها بمتابعة هذه الأعمال بعد ترخصيها". وبحسب حنون أيضاً فإن "أي عمل مهما كان سيئا فنياً، هو قابل للعرض ما لم يتضمن ما يمس بالقوانين والأنظمة". أما بالنسبة للأعمال المسرحية، فهي تخضع للرقابة المُسبقة من قبل جهاز الأمن العام، وليس من قبل اللجنة الفنية بحسب العميد.
باستثناء فيلم "ذا بوست" الذي نجا من ضغوط منع العرض، فإن العديد من الأفلام مُنعت من العرض تحت عنوان "التطبيع مع العدو الإسرائيلي". وطاول مقصّ الرقابة أجزاء من فيلم "مولانا" بعد مراسلات بين الأمن العام ودار الفتوى في الجمهورية اللبنانية (أعلى مرجعية إسلامية رسمية لبنانية)، فعُرض الفيلم في الصالات اللبنانية بعد اقتطاع عدة دقائق.
يقودنا المُخرج اللبناني، روي ديب، إلى المسار القانوني الرسمي الذي حوّل فيلمه "بيت البحر" الحائز على مجموعة جوائز عربية ودولية في مهرجانات الأفلام التي عُرض فيها من قرطاج إلى القاهرة والإسكندرية، وعدد من مهرجانات الأفلام الأوروبية والأميركية إلى "فيلم ممنوع من العرض" في لبنان. مُنع الفيلم من العرض في مهرجان "أيام بيروت السينمائية" الذي اختتم في مارس/آذار من العام الماضي، لأنه يتحدث عن تطلعات أربعة أشخاص عرب ينتمون إلى الجيل الجديد غير المُبالي والرافض بدرجات متفاوتة من الحدة للتراث الاجتماعي السائد.
يشرح الديب أن كل فيلم يحتاج إلى إجازة تصوير وإجازة عرض، "ومن أجل الحصول على موافقة الأمن العام ولجنة الرقابة فيجب ألا يتضمن الفيلم أي ترويج لتعاطي المخدرات أو التطبيع مع العدو الإسرائيلي أو الترويج للمثلية الجنسية أو التدخين". ويعود للجنة تحديد وجود الترويج من عدمه.
تقدمت إدارة مهرجان أيام بيروت بطلبات الحصول على أُذونات العرض عبر موزعي الأفلام المُختارة. وبعكس باقي الأفلام، لم يحصل فيلم الديب على مواقفة ولا على رفض". انتهى المهرجان دون عرض الفيلم، لكن متابعة أسرة الفيلم للملف أوصلتهم إلى بعض المعلومات التي حصلوا عليها بشكل غير رسمي، كما يُخبر الديب "العربي الجديد". ومن جملة المعلومات أن "الفيلم بكامله غير قابل للعرض"، وأن "قرار المنع عادة ما تتم إحالته بتوصية من الأمن العام إلى وزير الداخلية الذي يتخذ القرار"، وأن "اللجنة المعنية والمؤلفة من ممثلين عن بعض الوزارات كالاقتصاد والثقافة والداخلية وفنيين سينيمائيين اطّلعت على الفيلم 3 مرات ورفضت عرضه بالمُطلق". ويشير الديب إلى أن "الأمن العام يعترض عادة على جُمل أو مقاطع معينة، ويتم الخوض في نقاش مع الموزع والمخرج إزالة الجملة أو المقطع، ويتم تقديم نسخة جديدة مُعدلة. وهو أمر يحدث كثيراً، وعادة لا يتم إعلام الجمهور بتعديله عن النسخة الأصلية".
وتشير مديرة البرامج في مؤسسة مهارات، ليال بهمن، إلى أن "السلطات اللبنانية تُبرر مبدأ الرقابة المُسبقة بـ"حماية المجتمع اللبناني من ثلاثة مواضيع هي الجنس والدين وذاكرة الحرب الأهلية"، وهي عملية "يسمح بها عدم التوافق بين مبدأ حرية التعبير الذي ينص عليه الدستور وبين القوانين المرعية الإجراء التي تسمح بتشويه الأعمال الفنية والأدبية من خلال اقتطاع مفاصل أساسية منها في حال تطرقت إلى العناوين الثلاثة أعلاه".
وترى بهمن أن "طرح النقاش عن جدوى الرقابة يأتي من خارج السياق، لأن التطور التكنولوجي والمصادر المفتوحة على الإنترنت يسمحان بنشر كل الإنتاج الفني والثقافي دون الحاجة للمرور في الممرات التقليدية للنشر".