الجميع يعلم من هو أصغر فرهادي؛ كيف لا؟ وهو الوجه الأبرز خلال العقد الأخير؛ فأينما ذهبت أفلامه تنافس، بل تحصد أعرق الجوائز السينمائية. هذه المرّة، ينتقل فرهادي إلى ضواحي مدريد ليقدّم فيلمه الثامن "الجميع يعلم" Everybody Knows الذي كتبه وأخرجه. عُرض الفيلم في افتتاح "مهرجان كانّ السينمائي"، ومرّ بسلامٍ على ليلة الافتتاح التي لطالما كانت طالع سوءٍ على أفلامها. صدر الفيلم نهاية قبل أقل من شهرين بشكل ضيّق في بعض الصالات، قبل أن يصدر بتوسّع في فبراير/شباط القادم؛ حتى يتمكّن من تحقيق شرط العرض بغية التنافس على جوائز "أوسكار".
هذه ليست المرّة الأولى التي يترك فرهادي بيئة موطنه لتقديم رؤيته السينمائية؛ فصاحب The Past "الماضي" قد مضى من قبل لتجربةٍ فرنسيّة، لكنّ هذا الفيلم يخلو من أي شخصية إيرانية على عكس الأخير؛ إذ يواظب فرهادي على تصوير منمنماته الاجتماعيّة بذات الطريقة، فنرى تصدّعات العلاقات الاجتماعية تبعاً للكارثة؛ فهي عند مخرج Separation "انفصال" ليست سوى محرّضٍ لتوضيح الثغرات، وهي العامل الأساسي كي تطفو الجروح القديمة والأسرار المكبوتة على السطح.
للوهلة الأولى، يبدو الفيلم هارباً من أجواء تجارب المخرج الأميركي وودي آلان الأخيرة في العواصم الأوروبية؛ فجمال الطبيعة ووسامة الكادر التمثيلي هي ما يميّز ثلثه الأول ضمن أجواء مرحة وصاخبةٍ إلى حدّ ما.
دجج فرهادي فيلمه بكادر تمثيلي مهيب؛ فأولى دوري العاشقين العتيقين للثنائي بينلوبي كروز وخافيير بارديم، إلى جانب ريكاردو دارين (السرّ الذي في عيونهم) وباربارا ليني (الجلد الذي أسكنه). ومن نافل القول إن الفيلم يجمع أرفع الأسماء السينمائية اللاتينية قاطبةً؛ فلا يقتصر الأمر على الكادر التمثيلي، بل يمتدّ بانضمام خوسيه لويس آلكاين مدير التصوير، المعروف بتعاونه مع المخرج الفذ بيدرو ألمودوفار.
اقــرأ أيضاً
ما نعلمه
تصل لاورا برفقة طفليها من الأرجنتين لحضور زفاف أختها، بينما يغيب زوجها بداعي العمل. تسود أجواء الفرح والحميمية بين أفراد العائلة الكبيرة وأصدقائها. قليلٌ من الوقت يمضي قبل أن تعرف الابنة المراهقة "إيرني" أنّ أمها وباكو كانا عاشقين أزليين في البلدة الوادعة؛ هذا هو السرّ الأول الذي يعلمه الجميع، فالأمر قديم لدرجة أنّه محفور على جدران الكنيسة حرفيّاً.
تحضر البهجة في الزفاف، ضمن مشاهد متقنةٍ يغلب عليها الغناء والرقص والثمالة، تدلّ على التناغم العالي بين العناصر التمثيلية، ولا ينقطع الصخب حتى عند حصول عطلٍ كهربائي، ثم يتضح اختفاء "إيرني"، لتنقلب حالة الفيلم نحو الركود، ثم الهيجان.
يترك فرهادي الأبواب مواربةً في فيلمه، كما يترك كثيراً من التفاصيل من دون التطرّق إليها سوى عبر مشهديّة صامتة، فلا أحد يكترث بقرع أجراس الكنيسة قبل إنهاء المراسم، ما يعدّ مناسبة للتشاؤم. بهذه الخفّة، ينتقل الفيلم بين وجهات النظر لشخصيّاته وتعاملهم مع حادثة الاختطاف ومنعكساتها عليهم وعلى علاقاتهم؛ تاركاً المجال للمشاهد ليدرك المسكوت عنه، فالحبكات المستترة واضحةٌ من بعيد، والأسرار لا تنتظر الكشف بقدر ما تعبّر عن حاجةٍ للإقرار؛ تطابقها حاجة المشاهد لتصديق أو تكذيب ما يقال.
يسير العمل المبني حول حادثة اختطاف بعيداً عن كلاسيكيّة الثيمة؛ حتى تبيان المسؤول عن الجريمة لا ينال ذلك الاهتمام وينزوي ضمن مزيدٍ من الأسرار التي سيعرفها الجميع، وتتخذ تفاصيل النزاع حول الأبوّة وملكيّة الأرض صدارة الاهتمام. هنا، يعود فرهادي إلى حرفته في تداخل الدافع الشخصي مع المقبول والمأمول اجتماعيّاً. بينما الحقّ نفسه لا يُمكن القبض على جميع ملابساته؛ فلا نسمع سوى إصداراتٍ متباينة عن ذات المعضلة.
اقــرأ أيضاً
ما لا نعلمه
لماذا إسبانيا؟ بالتأكيد أن رؤية مخرجين قادمين من بلدان محدودة الإمكانيات، ومنخفضة السقف، نحو مناخ سينمائيٍّ جديد؛ أمرٌ يجعلنا نتوسّم الخير، بالإضافة إلى عامل الغريب المتطلع على ثقافة الآخرين، وما يمكنه رسمه من تفاصيل دقيقة قد تغيب عن أهل المنطقة ذاتها. لكن الحدوتة المقدّمة هنا لا تختص إسبانيا بشيء محددٍ يجعلنا نلتفت إلى فكرة أنّه لا يمكن تقديمه في أيّ مكانٍ آخر، على الأقل فهي لن تناسب المجتمع الإيراني، لكن لن نعلم ما قد يفرّقها عن بلدانٍ أخرى؛ حيث الأعراس مختلطة وكروم العنب تنتج النبيذ.
حين ذهب عباس كايروستامي إلى اليابان في فيلمه Like Someone in Love كانت الخطوة مبررةً، وربما شخصيّة لدرجةٍ ما، وقدّم أيقونة من أقصى الشرق تختص بالمكان وشخوصه؛ على نقيض نتاج فرهادي الأخير. علاوةً على ذلك، فإن الفيلم يجمع عناصر توحي بما هو أكثر من مجرّد دراما عائلية تصلح للمشاهدة في ظهيرة يوم سبت.
يقترن الفيلم بالرجل الذي كتبه وأخرجه، إذ إن لمساته واضحة في الإخفاء والبوح. من اليسير القول إن قطاعاً واسعاً من الجمهور سيعتبر الفيلم بمثابة العثرة في مسيرة فرهادي المتألقة، رغم التناول الجيد والحيّز الدرامي الذي تخبرنا الشخصيات به عن نفسها بالفعل أكثر من الكلام؛ لكنّه يخلو من الإبهار، ويبتعد عن الجديد دائراً حول نفسه وحول شبكة من علاقات القربى والصداقة التي تصلح لاستكشافها عبر موسم تلفزيوني كامل، ويعيد للذهن كثيراً من فيلم فرهادي About Elly، لكن مقاربته قبل عقدٍ من الآن لحادثة اختطاف كانت أكثر حدّة وأعلى كعباً من جديده، ولو كان ذلك تحت سقف رقابيٍّ وإنتاجيّ منخفض.
هذه ليست المرّة الأولى التي يترك فرهادي بيئة موطنه لتقديم رؤيته السينمائية؛ فصاحب The Past "الماضي" قد مضى من قبل لتجربةٍ فرنسيّة، لكنّ هذا الفيلم يخلو من أي شخصية إيرانية على عكس الأخير؛ إذ يواظب فرهادي على تصوير منمنماته الاجتماعيّة بذات الطريقة، فنرى تصدّعات العلاقات الاجتماعية تبعاً للكارثة؛ فهي عند مخرج Separation "انفصال" ليست سوى محرّضٍ لتوضيح الثغرات، وهي العامل الأساسي كي تطفو الجروح القديمة والأسرار المكبوتة على السطح.
للوهلة الأولى، يبدو الفيلم هارباً من أجواء تجارب المخرج الأميركي وودي آلان الأخيرة في العواصم الأوروبية؛ فجمال الطبيعة ووسامة الكادر التمثيلي هي ما يميّز ثلثه الأول ضمن أجواء مرحة وصاخبةٍ إلى حدّ ما.
دجج فرهادي فيلمه بكادر تمثيلي مهيب؛ فأولى دوري العاشقين العتيقين للثنائي بينلوبي كروز وخافيير بارديم، إلى جانب ريكاردو دارين (السرّ الذي في عيونهم) وباربارا ليني (الجلد الذي أسكنه). ومن نافل القول إن الفيلم يجمع أرفع الأسماء السينمائية اللاتينية قاطبةً؛ فلا يقتصر الأمر على الكادر التمثيلي، بل يمتدّ بانضمام خوسيه لويس آلكاين مدير التصوير، المعروف بتعاونه مع المخرج الفذ بيدرو ألمودوفار.
ما نعلمه
تصل لاورا برفقة طفليها من الأرجنتين لحضور زفاف أختها، بينما يغيب زوجها بداعي العمل. تسود أجواء الفرح والحميمية بين أفراد العائلة الكبيرة وأصدقائها. قليلٌ من الوقت يمضي قبل أن تعرف الابنة المراهقة "إيرني" أنّ أمها وباكو كانا عاشقين أزليين في البلدة الوادعة؛ هذا هو السرّ الأول الذي يعلمه الجميع، فالأمر قديم لدرجة أنّه محفور على جدران الكنيسة حرفيّاً.
تحضر البهجة في الزفاف، ضمن مشاهد متقنةٍ يغلب عليها الغناء والرقص والثمالة، تدلّ على التناغم العالي بين العناصر التمثيلية، ولا ينقطع الصخب حتى عند حصول عطلٍ كهربائي، ثم يتضح اختفاء "إيرني"، لتنقلب حالة الفيلم نحو الركود، ثم الهيجان.
يترك فرهادي الأبواب مواربةً في فيلمه، كما يترك كثيراً من التفاصيل من دون التطرّق إليها سوى عبر مشهديّة صامتة، فلا أحد يكترث بقرع أجراس الكنيسة قبل إنهاء المراسم، ما يعدّ مناسبة للتشاؤم. بهذه الخفّة، ينتقل الفيلم بين وجهات النظر لشخصيّاته وتعاملهم مع حادثة الاختطاف ومنعكساتها عليهم وعلى علاقاتهم؛ تاركاً المجال للمشاهد ليدرك المسكوت عنه، فالحبكات المستترة واضحةٌ من بعيد، والأسرار لا تنتظر الكشف بقدر ما تعبّر عن حاجةٍ للإقرار؛ تطابقها حاجة المشاهد لتصديق أو تكذيب ما يقال.
يسير العمل المبني حول حادثة اختطاف بعيداً عن كلاسيكيّة الثيمة؛ حتى تبيان المسؤول عن الجريمة لا ينال ذلك الاهتمام وينزوي ضمن مزيدٍ من الأسرار التي سيعرفها الجميع، وتتخذ تفاصيل النزاع حول الأبوّة وملكيّة الأرض صدارة الاهتمام. هنا، يعود فرهادي إلى حرفته في تداخل الدافع الشخصي مع المقبول والمأمول اجتماعيّاً. بينما الحقّ نفسه لا يُمكن القبض على جميع ملابساته؛ فلا نسمع سوى إصداراتٍ متباينة عن ذات المعضلة.
ما لا نعلمه
لماذا إسبانيا؟ بالتأكيد أن رؤية مخرجين قادمين من بلدان محدودة الإمكانيات، ومنخفضة السقف، نحو مناخ سينمائيٍّ جديد؛ أمرٌ يجعلنا نتوسّم الخير، بالإضافة إلى عامل الغريب المتطلع على ثقافة الآخرين، وما يمكنه رسمه من تفاصيل دقيقة قد تغيب عن أهل المنطقة ذاتها. لكن الحدوتة المقدّمة هنا لا تختص إسبانيا بشيء محددٍ يجعلنا نلتفت إلى فكرة أنّه لا يمكن تقديمه في أيّ مكانٍ آخر، على الأقل فهي لن تناسب المجتمع الإيراني، لكن لن نعلم ما قد يفرّقها عن بلدانٍ أخرى؛ حيث الأعراس مختلطة وكروم العنب تنتج النبيذ.
حين ذهب عباس كايروستامي إلى اليابان في فيلمه Like Someone in Love كانت الخطوة مبررةً، وربما شخصيّة لدرجةٍ ما، وقدّم أيقونة من أقصى الشرق تختص بالمكان وشخوصه؛ على نقيض نتاج فرهادي الأخير. علاوةً على ذلك، فإن الفيلم يجمع عناصر توحي بما هو أكثر من مجرّد دراما عائلية تصلح للمشاهدة في ظهيرة يوم سبت.
يقترن الفيلم بالرجل الذي كتبه وأخرجه، إذ إن لمساته واضحة في الإخفاء والبوح. من اليسير القول إن قطاعاً واسعاً من الجمهور سيعتبر الفيلم بمثابة العثرة في مسيرة فرهادي المتألقة، رغم التناول الجيد والحيّز الدرامي الذي تخبرنا الشخصيات به عن نفسها بالفعل أكثر من الكلام؛ لكنّه يخلو من الإبهار، ويبتعد عن الجديد دائراً حول نفسه وحول شبكة من علاقات القربى والصداقة التي تصلح لاستكشافها عبر موسم تلفزيوني كامل، ويعيد للذهن كثيراً من فيلم فرهادي About Elly، لكن مقاربته قبل عقدٍ من الآن لحادثة اختطاف كانت أكثر حدّة وأعلى كعباً من جديده، ولو كان ذلك تحت سقف رقابيٍّ وإنتاجيّ منخفض.