فيكتور كوساكوفسكي، معلّم السينما الوثائقية الحديثة. بعد غياب 7 أعوام، عاد بعملٍ مدهش، بعنوان "أكواريلا"، المعروض للمرة الأولى في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، قبل أن يبدأ جولة دولية واسعة النطاق.
كوساكوفسكي ـ المعروف بنظرياته وانتمائه إلى مدرسة وثائقية، أحد رموزها دزيغا فرتوف ـ يقدّم مع "أكواريلا" فيلمًا يتحدّى فيه العادات التي تكرّست في تصوير الطبيعة، وتحديدًا المياه، فنراها كما لم نرها من قبل. الكاميرا هنا في عين العاصفة، أو على قمّة كتلة الجليد، أو في أعماق المحيط.
السينمائيّ، المُعارض لنظام فلاديمير بوتين، يضمن للمُشاهد رحلة تعبر به من سيبيريا وبحيراتها المتجمّدة إلى أميركا وسيولها وأمطارها الغزيرة، ليخلص إلى أنشودة للمياه، ولما تمثّله من غموض في الوجدان البشري.
في هذه المناسبة، كان لـ"العربي الجديد" حوار مع هذا الفنّان الذي لا يساوم لا في مواقفه السياسية ولا في النحو الذي يوثّق فيه الواقع.
(*) أنت مُقلّ إنتاجًا.
ـ كلّ مرة أنهي فيها فيلمًا، أودّ الهروب. لا يعجبني ما أحقّقه. أراه سيئًا. يجتاحني الخجل. أحاول أن أقوم بعمل آخر كي أنسى. قبل 25 عامًا، أنجزتُ فيلمًا بعنوان "آل بيلوف" (1994)، نلتُ بفضله عشرات الجوائز، لكنه كان بنظري فيلمًا رديئًا جعلني أخجل. قلتُ في نفسي: "عليك اعتزال الإخراج"، فتوقّفتُ عن صناعة الأفلام. غادرتُ المدينة لأعيش في القرى. صرتُ أرعى البقر. عشتُ 3 أشهر هكذا. رحتُ أراقب الأبقار، فاكتشفت أن لها "كاراكتر". ثم لاحظتُ أنّي بدأتُ إنجاز فيلم في مخيّلتي. رغم أني قررتُ الهروب من صناعة الأفلام لممارسة مهنة أخرى، بتُّ أصنع فيلمًا آخر في عقلي. حملتُ هذه الفكرة في داخلي 25 عامًا، لم تتجسّد خلالها، والآن عدتُ إليها، إذْ إني أصوّر فيلمًا عن الأبقار والدجاج والخنازير.
(*) أفلامك تستند إلى أفكار مبتكرة. تراهن على الفكرة دائمًا.
ـ فكرة "فيفان لاس أنتيبوداس" (2011) خطرت لي عندما كنت في بوينس أيرس، حيث نُظِّمت استعادة لأفلامي. يومها، قررتُ التجوّل في المناطق الريفية. في أحد الصباحات، رأيتُ صيّاد سمك يُلقي صنّارته في المياه. كان انعكاسه في المياه في منتهى الجمال. فكّرتُ: ماذا لو تمّ تطويل هذه الصنّارة؟ إلى أين ستصل؟ بحثتُ في الموضوع، فوجدتُ أنّه إذا تمّ تطويلها فستخرج من شانغهاي. ثم قلتُ لابني، الذي يتحدّث اللغة الصينية: "سأبتاع لك بطاقة سفر. إذهبْ وأخبرني ماذا يوجد هناك، في الناحية المقابلة للمكان الذي يجلس فيه الصيّاد". ذهب إلى شانغهاي واتّصل بي من هناك: "لن تصدّق ما سأقوله: هناك ملايين البشر في الشارع، وامرأة تبيع السمك".
(*) ماذا عن "أكواريلا": كيف خطرت لك فكرة تصوير فيلم عن المياه بهذه الضخامة، وبحسّ مُغامِر لا مثيل له؟
ـ ذات يوم، اكتشفتُ لوحات فنّان تشكيلي روسي يُدعى إيفازوفزي، لم يرسم في حياته سوى عواصف. عندما تنظر إلى لوحاته، تشعر كأنك أمام شاشة ثلاثية الأبعاد. سألتُ نفسي مرارًا: "هل تستطيع السينما التعبير عن ظاهرة المياه بهذه الطريقة؟". يختلف تجسيد المياه في السينما تمامًا عمّا تراه في "أكواريلا". معظم ما يتعلّق بالمياه يتم تصويره في أحواض داخل استديوهات، مع آلات تصنع رياحًا. حرصتُ على إلقاء نفسي في العاصفة لتصويرها كما هي. رغم استحالة تصوير كهذا، أقلّه تقنيًا، إلا أني تمكّنت من تحقيق هذا الأمر.
اقــرأ أيضاً
(*) أنتَ تعيد الاعتبار إلى المياه بأشكالها المختلفة: الجليد والمطر والعاصفة. يكاد يكون فيلمًا بيئيًا، مع ميلٍ إلى الصوفية.
ـ المياه عنصر يلفّه الغموض. لا تموت. تخيّل أن كتلة جليد عمرها ملايين الأعوام تشرب منها المياه. ما تعلّمته وأنا أنجز هذا الفيلم هو أننا نحن البشر نبالغ دائمًا في تقدير أهميتنا. لكن، في الحقيقة، إذا متنا أو اختفينا عن سطح الأرض، لن تُلاحظ الطبيعة غيابنا، وربما تشعر بالسعادة. نحن الملوِّثون الوحيدون لهذه الأرض. نحن صنّاع البلاستيك والمواد الكيميائية. الأفيال والتماسيح لا تفعل هذا. صدّقني، لن ينتبه أحدٌ إذا متنا. أما إذا جفّت الينابيع، فكلّ شيء سيموت في 7 أيام؛ وإذا تعرّضت المساحات الخضراء للجفاف، لن يصمد الإنسان شهرين. إعطاء أهمية قصوى للإنسان يأتي من العهد القديم، حيث كُتب أن الله خلق كلّ شيء على الأرض، ثم خلق الإنسان للسيطرة على هذا كلّه. هذا خطأ. نحن لسنا أسياد الأرض. هذا يعطي الإنسان الصلاحية الخاطئة بأنه يحق له أن يفعل أي شيء. بينما نحن لسنا أهمّ من برغشة. عندما ترى المحيطات كيف تخضّ المياه بهذه القوة ومن دون توقّف منذ ملايين الأعوام، تسأل: مَن نحن؟ نحن لا شيء. علينا أن نهدأ ونعيد حساباتنا ونحترم الكوكب الذي نعيش فيه. ليوناردو دا فينتشي قال: "يومًا ما سيفهم الإنسان أن قتل حيوان لا يقلّ إجرامًا عن قتل إنسان. لكن هذا يحتاج إلى وقت".
عندما بدأتُ أخطّط لفيلمي عن الحيوانات، كانت أكبر مشكلة لديّ هي أن أفلام "كوداك" مصنوعة من عظام البقر، والفيلم يتناول جريمة قتل الحيوانات. لذا، عندما ظهر الـ"ديجيتال"، شعرتُ بسعادة. صحيح أن الإنسان خلق كلّ شيء، لكنّه دمّر كلّ شيء أيضًا. إنظر إلى ما فعله بالطاقة الذرية.
(*) إحدى نظرياتك تقول إنّ على المخرج أن يصنع فيلمًا فقط في حال لا يستطيع العيش من دون صناعة الأفلام.
ـ السينما ليست عملية جراحية لإنقاذ الوضع. وجودها يهدف إلى منع وقوع المشكلة لا إصلاحها بعد وقوعها. اليوم، نجد مئات الأفلام عن اللاجئين، لكن الأوان فات. الجميع يريدون أن "يركبوا الموجة". جيّد، لكن الأوان فات. كان يجب صُنع هذه الأفلام قبل وقوع المشكلة. لنصنع فنًا نقيًا يمنع العالم من الوقوع في الكوارث. لا بل إن كثرة الأفلام تلوّث البحار والمحيطات. قبل أن أمسك الكاميرا، عليّ أن أسأل نفسي: هل أنا فعلاً مخرج؟ لمَ أصنع فيلمًا: للمال؟ للشهرة؟ هل أريد قول شيء؟ إذا كان هدفي أحد هذه الأشياء، فهذا يعني أني على الطريق الخطأ. عليك أن تصنع فيلمًا فقط عندما لا تستطيع أن تعيش من دون صنعه.
عندما كنتُ شابًا، بدأتُ تصوير الأفلام، وكنتُ محاطًا بسينمائيين شباب في مثل عمري، بين 20 و25 عامًا. أتذكّر إطلاق "ستالكر" (1979) لأندره تاركوفسكي حينها، وكان فيه المشهد التالي: يتم اقتياد الشخصية إلى غرفة حيث يمكنها أن تتمنّى ما تريد، فتتحقّق أمنيتها. ثم هناك مَن يحذّرها: "ستتحقّق الأمنية، لكن ما تتمنّاه فعلاً في أعماقك لا ما تطلبه". كوني في هذه المهنة منذ نحو 40 عامًا، أعرف ما يريده كلّ شخص. أعرف المخرج إذا كان يعمل حبًّا بالسينما أو لا.
(*) درجت في الأعوام الأخيرة الأفلام الوثائقية التي تُدين نظامًا أو سياسيًا. ما رأيك بهذا التوظيف للوثائقي؟
ـ اخترعنا السينما، والآن نستخدمها للـ"بروباغاندا" السيئة. تُنجَز أفلامٌ لشتم (دونالد) ترامب. لا أعرف مَن هو ترامب، لكن المشكلة كامنةٌ في استخدام الفنّ لشتمه. في السينما، القول إنّ "بوتين جيّد" أو "بوتين سيئ" كلاهما دعاية. إذا قدّمتَ سينما جيدة، لَمَا انتُخِب (فلاديمير) بوتين أصلاً. لو استُخدِمت الأشياء كما يجب، لما وصل ترامب إلى السلطة. لا أوافق أبدًا مع القائل بأن الفن لا يُفصَل عن السياسة. يجب ألا نوظّف الفنّ في السياسة. لنترك الفنّ للفنّ. إذا كنتَ طيراً لا يسعك الغناء في عيد مولد ترامب أو بوتين. الطير يغنّي للجميع. التمساح لا يعضّ لأن أمامه ترامب أو بوتين، بل لأنه تمساح.
اقــرأ أيضاً
(*) هل يُشغلك السؤال الأخلاقي عندما تصوّر شخصًا يموت، كما فعلتَ في "أكواريلا"؟
ـ عرضتُ الحدّ الأدنى ممّا صوّرته. هناك الكثير ممّا لا نراه. لا نرى جثّة الرجل أو وجهه مثلاً. لأسباب أخلاقية، امتنعتُ عن إظهار أشياء كثيرة. هكذا أعمل دائمًا. لا يُشكّل "أكواريلا" استثناءً. كلّ شيء تضعه في فيلم وثائقي له مردود وتداعيات. عليك التفكير بردّ الفعل على ما تضعه في مونتاجك النهائي، بغضّ النظر عمّا صوّرت. أصعب شيء هو المونتاج، لأنك تشعر أكثر بكثير بمّا أنت قادر على إظهاره في فيلمك. أشياء مرعبة عشناها وصوّرناها في "أكواريلا"، ثم سألتُ نفسي وأنا جالس مع المونتير (إلى كوساكوفسكي، هناك مولّي مالين ستنسغارد وآينارا فيرا): "هل يمكنني أن أرى هذا؟". هناك أخلاق ومسؤولية يجعلانك تعيد حساباتك، فتسأل مجدّدًا السؤالين اللذين لا مهرب منهما: "لمَ أصوِّر الأفلام؟" و"ما الذي أريده؟".
ـ كلّ مرة أنهي فيها فيلمًا، أودّ الهروب. لا يعجبني ما أحقّقه. أراه سيئًا. يجتاحني الخجل. أحاول أن أقوم بعمل آخر كي أنسى. قبل 25 عامًا، أنجزتُ فيلمًا بعنوان "آل بيلوف" (1994)، نلتُ بفضله عشرات الجوائز، لكنه كان بنظري فيلمًا رديئًا جعلني أخجل. قلتُ في نفسي: "عليك اعتزال الإخراج"، فتوقّفتُ عن صناعة الأفلام. غادرتُ المدينة لأعيش في القرى. صرتُ أرعى البقر. عشتُ 3 أشهر هكذا. رحتُ أراقب الأبقار، فاكتشفت أن لها "كاراكتر". ثم لاحظتُ أنّي بدأتُ إنجاز فيلم في مخيّلتي. رغم أني قررتُ الهروب من صناعة الأفلام لممارسة مهنة أخرى، بتُّ أصنع فيلمًا آخر في عقلي. حملتُ هذه الفكرة في داخلي 25 عامًا، لم تتجسّد خلالها، والآن عدتُ إليها، إذْ إني أصوّر فيلمًا عن الأبقار والدجاج والخنازير.
(*) أفلامك تستند إلى أفكار مبتكرة. تراهن على الفكرة دائمًا.
ـ فكرة "فيفان لاس أنتيبوداس" (2011) خطرت لي عندما كنت في بوينس أيرس، حيث نُظِّمت استعادة لأفلامي. يومها، قررتُ التجوّل في المناطق الريفية. في أحد الصباحات، رأيتُ صيّاد سمك يُلقي صنّارته في المياه. كان انعكاسه في المياه في منتهى الجمال. فكّرتُ: ماذا لو تمّ تطويل هذه الصنّارة؟ إلى أين ستصل؟ بحثتُ في الموضوع، فوجدتُ أنّه إذا تمّ تطويلها فستخرج من شانغهاي. ثم قلتُ لابني، الذي يتحدّث اللغة الصينية: "سأبتاع لك بطاقة سفر. إذهبْ وأخبرني ماذا يوجد هناك، في الناحية المقابلة للمكان الذي يجلس فيه الصيّاد". ذهب إلى شانغهاي واتّصل بي من هناك: "لن تصدّق ما سأقوله: هناك ملايين البشر في الشارع، وامرأة تبيع السمك".
(*) ماذا عن "أكواريلا": كيف خطرت لك فكرة تصوير فيلم عن المياه بهذه الضخامة، وبحسّ مُغامِر لا مثيل له؟
ـ ذات يوم، اكتشفتُ لوحات فنّان تشكيلي روسي يُدعى إيفازوفزي، لم يرسم في حياته سوى عواصف. عندما تنظر إلى لوحاته، تشعر كأنك أمام شاشة ثلاثية الأبعاد. سألتُ نفسي مرارًا: "هل تستطيع السينما التعبير عن ظاهرة المياه بهذه الطريقة؟". يختلف تجسيد المياه في السينما تمامًا عمّا تراه في "أكواريلا". معظم ما يتعلّق بالمياه يتم تصويره في أحواض داخل استديوهات، مع آلات تصنع رياحًا. حرصتُ على إلقاء نفسي في العاصفة لتصويرها كما هي. رغم استحالة تصوير كهذا، أقلّه تقنيًا، إلا أني تمكّنت من تحقيق هذا الأمر.
(*) أنتَ تعيد الاعتبار إلى المياه بأشكالها المختلفة: الجليد والمطر والعاصفة. يكاد يكون فيلمًا بيئيًا، مع ميلٍ إلى الصوفية.
ـ المياه عنصر يلفّه الغموض. لا تموت. تخيّل أن كتلة جليد عمرها ملايين الأعوام تشرب منها المياه. ما تعلّمته وأنا أنجز هذا الفيلم هو أننا نحن البشر نبالغ دائمًا في تقدير أهميتنا. لكن، في الحقيقة، إذا متنا أو اختفينا عن سطح الأرض، لن تُلاحظ الطبيعة غيابنا، وربما تشعر بالسعادة. نحن الملوِّثون الوحيدون لهذه الأرض. نحن صنّاع البلاستيك والمواد الكيميائية. الأفيال والتماسيح لا تفعل هذا. صدّقني، لن ينتبه أحدٌ إذا متنا. أما إذا جفّت الينابيع، فكلّ شيء سيموت في 7 أيام؛ وإذا تعرّضت المساحات الخضراء للجفاف، لن يصمد الإنسان شهرين. إعطاء أهمية قصوى للإنسان يأتي من العهد القديم، حيث كُتب أن الله خلق كلّ شيء على الأرض، ثم خلق الإنسان للسيطرة على هذا كلّه. هذا خطأ. نحن لسنا أسياد الأرض. هذا يعطي الإنسان الصلاحية الخاطئة بأنه يحق له أن يفعل أي شيء. بينما نحن لسنا أهمّ من برغشة. عندما ترى المحيطات كيف تخضّ المياه بهذه القوة ومن دون توقّف منذ ملايين الأعوام، تسأل: مَن نحن؟ نحن لا شيء. علينا أن نهدأ ونعيد حساباتنا ونحترم الكوكب الذي نعيش فيه. ليوناردو دا فينتشي قال: "يومًا ما سيفهم الإنسان أن قتل حيوان لا يقلّ إجرامًا عن قتل إنسان. لكن هذا يحتاج إلى وقت".
عندما بدأتُ أخطّط لفيلمي عن الحيوانات، كانت أكبر مشكلة لديّ هي أن أفلام "كوداك" مصنوعة من عظام البقر، والفيلم يتناول جريمة قتل الحيوانات. لذا، عندما ظهر الـ"ديجيتال"، شعرتُ بسعادة. صحيح أن الإنسان خلق كلّ شيء، لكنّه دمّر كلّ شيء أيضًا. إنظر إلى ما فعله بالطاقة الذرية.
(*) إحدى نظرياتك تقول إنّ على المخرج أن يصنع فيلمًا فقط في حال لا يستطيع العيش من دون صناعة الأفلام.
ـ السينما ليست عملية جراحية لإنقاذ الوضع. وجودها يهدف إلى منع وقوع المشكلة لا إصلاحها بعد وقوعها. اليوم، نجد مئات الأفلام عن اللاجئين، لكن الأوان فات. الجميع يريدون أن "يركبوا الموجة". جيّد، لكن الأوان فات. كان يجب صُنع هذه الأفلام قبل وقوع المشكلة. لنصنع فنًا نقيًا يمنع العالم من الوقوع في الكوارث. لا بل إن كثرة الأفلام تلوّث البحار والمحيطات. قبل أن أمسك الكاميرا، عليّ أن أسأل نفسي: هل أنا فعلاً مخرج؟ لمَ أصنع فيلمًا: للمال؟ للشهرة؟ هل أريد قول شيء؟ إذا كان هدفي أحد هذه الأشياء، فهذا يعني أني على الطريق الخطأ. عليك أن تصنع فيلمًا فقط عندما لا تستطيع أن تعيش من دون صنعه.
عندما كنتُ شابًا، بدأتُ تصوير الأفلام، وكنتُ محاطًا بسينمائيين شباب في مثل عمري، بين 20 و25 عامًا. أتذكّر إطلاق "ستالكر" (1979) لأندره تاركوفسكي حينها، وكان فيه المشهد التالي: يتم اقتياد الشخصية إلى غرفة حيث يمكنها أن تتمنّى ما تريد، فتتحقّق أمنيتها. ثم هناك مَن يحذّرها: "ستتحقّق الأمنية، لكن ما تتمنّاه فعلاً في أعماقك لا ما تطلبه". كوني في هذه المهنة منذ نحو 40 عامًا، أعرف ما يريده كلّ شخص. أعرف المخرج إذا كان يعمل حبًّا بالسينما أو لا.
(*) درجت في الأعوام الأخيرة الأفلام الوثائقية التي تُدين نظامًا أو سياسيًا. ما رأيك بهذا التوظيف للوثائقي؟
ـ اخترعنا السينما، والآن نستخدمها للـ"بروباغاندا" السيئة. تُنجَز أفلامٌ لشتم (دونالد) ترامب. لا أعرف مَن هو ترامب، لكن المشكلة كامنةٌ في استخدام الفنّ لشتمه. في السينما، القول إنّ "بوتين جيّد" أو "بوتين سيئ" كلاهما دعاية. إذا قدّمتَ سينما جيدة، لَمَا انتُخِب (فلاديمير) بوتين أصلاً. لو استُخدِمت الأشياء كما يجب، لما وصل ترامب إلى السلطة. لا أوافق أبدًا مع القائل بأن الفن لا يُفصَل عن السياسة. يجب ألا نوظّف الفنّ في السياسة. لنترك الفنّ للفنّ. إذا كنتَ طيراً لا يسعك الغناء في عيد مولد ترامب أو بوتين. الطير يغنّي للجميع. التمساح لا يعضّ لأن أمامه ترامب أو بوتين، بل لأنه تمساح.
(*) هل يُشغلك السؤال الأخلاقي عندما تصوّر شخصًا يموت، كما فعلتَ في "أكواريلا"؟
ـ عرضتُ الحدّ الأدنى ممّا صوّرته. هناك الكثير ممّا لا نراه. لا نرى جثّة الرجل أو وجهه مثلاً. لأسباب أخلاقية، امتنعتُ عن إظهار أشياء كثيرة. هكذا أعمل دائمًا. لا يُشكّل "أكواريلا" استثناءً. كلّ شيء تضعه في فيلم وثائقي له مردود وتداعيات. عليك التفكير بردّ الفعل على ما تضعه في مونتاجك النهائي، بغضّ النظر عمّا صوّرت. أصعب شيء هو المونتاج، لأنك تشعر أكثر بكثير بمّا أنت قادر على إظهاره في فيلمك. أشياء مرعبة عشناها وصوّرناها في "أكواريلا"، ثم سألتُ نفسي وأنا جالس مع المونتير (إلى كوساكوفسكي، هناك مولّي مالين ستنسغارد وآينارا فيرا): "هل يمكنني أن أرى هذا؟". هناك أخلاق ومسؤولية يجعلانك تعيد حساباتك، فتسأل مجدّدًا السؤالين اللذين لا مهرب منهما: "لمَ أصوِّر الأفلام؟" و"ما الذي أريده؟".