الإعلان عن الترشيحات الرسمية لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، أي الناطق بغير اللغة الإنكليزية، دافعٌ إلى تعليقات كثيرة تُقارِن بين الأفلام الـ5 الحاصلة على هذه الصفة. "كفرناحوم" للّبنانية نادين لبكي، حاضرٌ بين 4 أفلام تُعتَبر الأهمّ سينمائيًا، بالمستويات كلّها. فرح لبنانيين بترشيحٍ رسميّ يحمل في طياته شيئًا من "وطنية" مشكوكٍ بها، لأنها تنعدم إزاء أمورٍ أساسية، متعلّقة بشؤون الحياة اليومية التي يتغاضى كثيرون منهم عنها. نرجسية تحول دون التنبّه إلى المضمون الدرامي السيئ، الذي يُقدّمه فيلمٌ يرى الفقر عيبًا، إنْ لم يكن جريمة، ويمنح جهازًا أمنيًا لبنانيًا "صكّ براءة" من أفعالٍ مسيئة لكثيرين، يعرفها لبنانيون مهووسون بـ"كفرناحوم" ومخرجته، لأسبابٍ خارجة عن السينما.
يصعب التغاضي عن حادثةٍ تشهدها بيروت قبل وقتٍ قليلٍ من إعلان الترشيح الرسمي لـ"كفرناحوم"، للنسخة الـ91 التي تُقام في 24 فبراير/ شباط 2019. حادثة مندرجة في سياق اجتماعي يرتكز على عنصرية ووقاحة في التعامل مع غير اللبنانيين، خصوصًا السوريين منهم. فالطفل السوري أحمد الزعبي (14 عامًا) يسقط في "منور" مبنى، بعد هروبه من رجال شرطة بلدية بيروت، الذين يلاحقونه بـ"تهمة"(!) "مسح الأحذية"، قبل أن تتّهمه البلدية نفسها بسرقة ما. "كفرناحوم" يقول، ضمنًا، إن الفقراء مذنبون، وإن أجهزة الأمن اللبناني تتعامل مع "قادمين" إلى لبنان بلباقة وسلوكٍ حَسَنٍ واحترام، وهذا ـ كما يُدركه الجميع ـ غير صحيح البتّة.
لكن المشكلة كامنةٌ في اختيار "كفرناحوم" ضمن لائحة الأفلام المرشّحة رسميًا لجائزة السينما غير الأميركية، التي تضمّ "حرب باردة" للبولندي بافل بافليكوفسكي، و"عائلة السرقة" للياباني هيروكازو كوري ـ إيدا، و"روما" للمكسيكي ألفونسو كوارون، و"عمل من دون مؤلّف" للألماني فلوريان هانكل فون دونرسمارك. 4 أفلام تتمتّع بمقاييس سينمائية غير قابلة لأية مقارنة من أي نوع مع الروائي الطويل الثالث للبكي، المُسطّح والمدّعي والمتعالي، والفاقِد جماليات درامية وفنية وتمثيلية، لن تحضر إطلاقًا في تلك الأفلام الـ4.
هذا يُثير نفورًا لدى مهتمّين إزاء الاختيار، وفي الوقت نفسه يُحرِّض مهووسين بـ"وطنية" لبنانية "مُزيّفة" على اتّهام منتقدي "كفرناحوم" بـ"التعالي" على فيلمٍ "ناجح"، وهم ـ غالبًا ـ منضوون في السياق نفسه لثنائية الاتهام والبراءة، التي يرتكز عليها الفيلم وخطابه. الشوفينية اللبنانية قاتلة، فهي تُسبِّب أزماتٍ جمّة في الداخل اللبناني، بتواطؤ غير مباشر بين أفراد وإعلاميين ومثقفين ومسؤولين سياسيين وأمنيين، إلى جمعيات ومؤسّسات وبلديات. وهذا نفسه يحثّ على إعادة طرح سؤال آلية الاختيار في المهرجانات الدولية والمؤسّسات المانحة جوائز متفرّقة، خصوصًا أن "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" تُرشّح "بلاك بانتر" لراين كووغلر، في 7 فئات، وهو منتمٍ إلى سلسلة "مارفل ـ الأبطال الخارقين"، لكونه أول فيلم من هذا النوع تكون شخصيته الأساسية سوداء البشرة.
وإذْ يكون أمرٌ كهذا معلومًا، في زمن الارتباكات الأميركية الداخلية والخارجية، وفي لحظة العمل على التساوي بين العاملين جميعهم في "صناعة الترفيه"، فإن سبب اختيار "كفرناحوم" معلومٌ هو أيضًا، لأنه من إخراج امرأة، والعمل جارٍ في هوليوود على منح المرأة امتيازات أكبر ومساحاتٍ أوسع، ولا بأس باختيار امرأة من الشرق الأوسط للتأكيد على توجّه كهذا. وحكايته إنسانية، تُقارب واقعًا حقيقيًا في بلدٍ مُقيم في انهياراتٍ شتّى، لكن المعالجة فاقدةٌ لكلّ حساسية واشتغال سينمائيين، وهذا ما تتغاضى عنه الأكاديمية، التي لن تتردّد في ترجيح كفّة المضمون على حساب الشكل أحيانًا، لأسباب خارجة عن السينما وصناعتها.
تساؤلات كهذه مشروعة، لكنها لن تحول دون التنبّه إلى أنّ عمل هوليوود وأكاديميتها مختلفٌ تمامًا عن كلّ تفكيرٍ آخر، إنْ لم يتناقض وإياه. أما "الوطنية اللبنانية" فمفضوحة، لأن الحراك المدنيّ ضد الانهيارات معقود على قلّة نادرة تحاول إيجاد معنى للعمل الميدانيّ في مواجهة تنانين القتل والفساد والتخريب، بينما الغالبية منفضّة عن كلّ عمل جدّي، فتكتفي بشعاراتٍ و"ضجيج من أجل لا شيء".