ليلة كل سبت، تفتح أبواب متحف اللوفر مجاناً في مشهد "تشاركي" يجدد الحياة الليلية في عاصمة الأنوار التي تمر في ظروف سياسية مربكة مع حركة "السترات الصفراء". يكاد هذا المشهد يغلف الأمسية الأسبوعية الأهم في يوميات الفرنسيين، ويضيف نكهة خاصة على سهراتهم الثقافية، ويزيد من توافد السياح أسبوعياً من العواصم الأوروبية، كون هذه الفرصة تتيح نوعاً من الطقوس الخاصة بليلة السبت، والوقوف كالعادة في طوابير انتظار لزيارة أهم متحف في العالم، والتعرف إلى مقتنيات نادرة من الشرق والغرب. ولعل هذه الخطوة تأتي تتويجاً للرقم القياسي الذي حققه المتحف في عدد زائريه الذي بلغ في عام 2018 عشرة ملايين شخص، وهو أعلى رقم يسجله متحف في العالم. وبذلك يتفوق اللوفر على ما حققه في عام 2012 حين بلغ عدد زواره تسعة ملايين و700 ألف زائر. فما هي أسرار هذا المتحف التي تجعل السياح من كل أقطاب الدنيا يقصدونه؟ وما هي حكايته التاريخية؟
من العسكرة إلى الملكية
تاريخياً، يعود البناء الحالي للوفر إلى عام 1190. وهو عبارة عن قلعة بنيت على الضفة الشمالية لنهر السين، أهم أنهر فرنسا، في عهد الملك فيليب الثاني أوغوست. وكان الغرض منها استراتيجياً بحتاً، لصد أي هجوم قد تتعرض له باريس خلال الحملات الصليبية التي كان يشنها فيليب الثاني خارجها. وبعد أفول دورها العسكري، تحولت إلى قصر ملكي وعرف باسم قصر "اللوفر"، وما زال على تسميته هذه تيمناً بالبقعة التي بني عليها. وتحول القصر إلى سكن ملكي، عاشت فيه أسر الملوك الفرنسيين بالتتابع. وكان آخر سكانه الملك لويس الرابع عشر قبل أن ينتقل إلى قصر فرساي مع بدايات عام 1672. وأصبح قصر فرساي رسمياً القصر الملكي والإداري المعتمد، وتحول قصر "اللوفر" مكاناً للمحفوظات النادرة من التحف واللوحات التي كانت تهدى للملوك الفرنسيين.
من الأكاديميا إلى العروض
في عام 1692، افتتحت في القصر مدرستان متخصصتان للرسم وفن العمارة وأخرى للأداء المسرحي والتمثيلي. ومن هنا شهد القصر "ثورة" جديدة فيه، تمثلت في تأسيسه مجموعات فنية ساعدت في بلورة أحد مسارات الرسم التشيكلي في ذاك الوقت في فرنسا وعلى امتداد أوروبا. وصارت هاتان المدرستان مقصداً أكاديمياً لطلاب الرسم والتمثيل على حد سواء.
وبالتزامن وبعد سبع سنوات، تقرر تحويل إحدى صالات القصر إلى معرض للفنون، حيث عرض معظم الفنانون التشكيليون يومها أعمالهم فيها. وبعد 100 عام من إطلاق هذه الصالة، قررت الجمعية الوطنية الفرنسية تحويل هذه الصالة إلى متحف وطني، يتم فيها عرض الأعمال المستوحاة مع بداية الثورة الفرنسية، حيث شهدت فرنسا فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية استمرت من 1789 حتى 1799، وكانت لها تأثيرات عميقة على الفن التشكيلي والنحت. وفي صيف عام 1794 افتتح المتحف الوطني، واحتفظ منذ ذلك الوقت بكونه أهم متاحف فرنسا التابعة للحكومة وأعرقها. لا بل وبعد توسعته لاحقاً صار أهم متحف في العالم.
الهرم الزجاجي
أما نهضة المتحف الأساسية فجاءت في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، والذي كان يولي اهتماماً عالياً للثقافة وتحيطه كوكبة من المثقفين الفرنسيين ومن اليسار العمالي، وأثرت في خططه الحكومية، ومن بينها تخصيص ميزانية لتحويل المتحف إلى مقصد عالمي، وهذا ما حصل.
وخضع المتحف لأعمال ترميم وتوسعة، أبرزها إنشاء الهرم الزجاجي، الذي كان مجرد فكرة تدور في رأس ميتران وهذا نتيجة حبه الشخصي لمصر القديمة وإنتاجها الفرعوني. وأثار هذا الهرم، رغم أنه من أكثر الأماكن ازدحاماً يومياً بالزوار القاصدين متحف اللوفر، بعد لوحة "موناليزا" وتمثال "أفروديت دا ميلو"، حفيظة الفرنسيين بسبب المكونات التي بني بها، وهي مواد زجاجية وفولاذية، والانتقاد جاء وما زال حاضراً، عن بعد هذه المكونات عن تاريخية القصر وعراقته الحجرية والمعمارية، وأنه خرق جماليته الكلاسيكية.
وطلب ميتران في عام 1984 من المهندس المعماري يواه مينغ باي، والذي صمم متحف "ميهو" في اليابان وبرج البنك الملكي في مونريال والمعرض الوطني للفنون في واشنطن، تصميم الهرم المصغر، والذي بني بواجهات زجاجية ووصل ارتفاعه إلى 20.6 مترا، واعتمد على قاعدة مربعة وواجهته تحددت بـ 35 متراً. ويتكون الهرم من 70 قطعة زجاجية على شكل شرائح. ويصل وزنه الإجمالي إلى ما يقدّر بخمسة وتسعين طناً، أما البناء نفسه فيتكون من جدران شفافة رُكّبت من ستمئة وثلاثة معينات قاعدية. وفي أيلول/ سبتمبر من العام 1981 تم افتتاح الهرم، وأعلن ميتران عن خطة توسيع للمتحف ليشمل أجنحة جديدة، حيث هاجرت وزارة الاقتصاد من أحد مباني القصر إلى منطقة "باسي" البرجوازية القريبة من برج إيفل.
محتويات نادرة
وينقسم متحف اللوفر إلى أقسام متنوعة ومتخصصة بحسب الفن الذي يقدمه إلى الزائر، وتتوزع صالات العرض على ثلاث طبقات وفوق مساحة تصل إلى 13 كيلومتراً. ويضم المتحف مليون قطعة فنية من لوحات ومنحوتات وتماثيل ومجموعات نادرة من الآثار الرومانية والإغريقية يصل عددها إلى ستة وخمسين ألفاً وأربع وستين قطعة تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، وبعضها يعود إلى حقبة بلاد ما بين النهرين، وإلى العهد الفرعوني.
أما القسم الاهم من المتحف فهو القاعة الكبرى التي بنيت بأمر من كاترين دي ميديشي، زوجة ملك فرنسا هنري الثاني الذي حكم في الفترة من 1547 الى 1559، وكانت الوصية على العرش في الفترة من 1560 إلى 1574.