لا يخلو أي فيلم من أفلام ستانلي كوبريك من رائحة فضيحة أو من ضربة سوط نقدية توجه لمؤسسة ما، دينية كانت أو سياسية أو عسكرية. حتى مفاهيم وأيديولوجيات كـ"ما بعد الحداثة" لم تسلم منه، فلوحقت أفلامه بالمنع، وتعرضت للتخريب، ووصلت الضغوط إلى تهديده شخصياً، ما أدى إلى التصاق أسطرة دائمة له ولأفلامه ولحياته الشخصية، عززتها بروباغندا الحكومات غير الراضية، والاتهامات الموجهة له من قبل الحركات اليسارية، لتعامله مع شركات الإنتاج الأميركية كـ"وارنر بروس"، فأصبح التعامل مع كوبريك كالقنبلة الموقوتة، لا نستطيع أن نعلم إن كانت مثاليته ستنفجر ويأمر بإلغاء العرض، أو ستتلقى الدار المسؤولة عن عرض أحد الأفلام تهديداً أو منعاً من الرقابة.
بثت منصة إتش بي أو ماكس، احتفالاً بالذكرى الخمسين لعرض فيلم كوبريك A Clockwork Orange الصادر عام 1971، وثائقياً عنوانه A Forbidden Orange (البرتقالة المحرمة) من إخراج الإسباني بيدرو غونزاليس بيرموديز الذي تحوي مسيرته على 20 عملاً، بين فيلم قصير ووثائقي.
الوثائقي الأخير سرد مدعم بلقطات أرشيفية بقياسات شاشة التلفاز (4:4)، أعيد ترميمها، وبعض الصور الفوتوغرافية، إذ أعاد العرض ترتيب الأحداث الصاخبة التي رافقت عرض فيلم A Clockwork Orange في بلد الوليد/إسبانيا عام 1975، عندما كانت محكومة بالقبضة الحديدية لفرانكو الفاشي. العرض جرى خلال مهرجان سينمائي ديني، على يد مجموعة من الأشخاص القائمين على المهرجان، نراهم يتحدثون عن الفيلم وكواليسه، وما مروا به مع الرقابة خلال العرض.
الوثائقي الممتد لساعة وربع يضع هذه التجربة أيضاً في مصاف الأسطورة الشعبية، فكوبريك أسطورة وفيلمه أسطورة، والحدث أيضاً أسطورة، كما سنرى في نهاية العرض. التقطيع السينمائي للفيلم منظم ومدروس بشكل جيد جداً، إذ يرفع الأسئلة البسيطة المحيطة حول الرقابة وتصنيفات أفلام كوبريك في إسبانيا، ويضعها ضمن اعتباراتها وسياقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وحتى الصناعية منها والديموغرافية التي كانت في زمن العرض، ليقدم لنا نظرة شبه شاملة للشرط التاريخي الذي يعتبره البعض خرافياً، فيعطي الفيلم وما يدور حوله بعداً روائياً إثنوغرفياً يتكامل مع المشاهد الواقعية من الحياة اليومية لمهرجان سينمائي ديني ضمن مدينة مهمشة.
يروي لنا قصة الفيلم الممثل مالكوم ماكدويل الذي أدى دور أليكس في الفيلم الأصلي. ويبدأ بالحديث عن لقائه الأول بكوبريك، وكيف نحت دوره في الفيلم حياته المهنية والشخصية لاحقاً، فلم يُمحَ أثر هذه الشخصية من داخله، رغم العدد الكبير للأدوار التي لعبها بعده. ينتقل بعدها مباشرة إلى الحديث عن إسبانيا والعرض، هروباً من الوقوع في الذاتية والاستعراض الباهت.
صرح فرانكو، في بداية السبعينيات، أنه يريد الانفتاح على العالم الخارجي، وكان انفتاحه ذا أجندة سياسية تهدف لاستجلاب استثمارات شركات الإنتاج العملاقة، فالعديد من الأفلام صورت في إسبانيا، وكثير من الممثلين العالميين زاروها. وكأي ديكتاتور، وظف فرانكو الدين في مصلحته داخلياً، وكان للمؤسسة الدينية حرية أكثر من غيرها.
في بلد الوليد خصوصاً، كان الوضع مختلف، فالمدينة التي قطنها، آنذاك، 200 ألف نسمة، كانت تعاني من القبضة الأمنية بشكل أقل من مدريد أو برشلونة بسبب ريفيتها. في بلد الوليد، جامعة تضم ثلاثين ألف طالب، وأحد معامل شركة FASA-Renault، فالبنية المجتمعية والطبقية مقسمة بشكل واضح؛ هناك الطلاب وحركتهم الثقافية، والعمال وإضراباتهم المربكة، وبيروقراطية كاثوليكية عسكرية ودينية تحتل وسط المدينة، والكنائس متوزعة داخل أحزمة البؤس الملتفة حول المركز.
امتداداً لأسبوع الآلام، أطلقت الكنيسة تحت مباركة فرانكو مهرجاناً سينمائياً دينياً، ترافق مع موجة سينمائية عالمية غيرت شكل السينما إلى يومنا هذا. بدأت العروض، وكانت الحدث الوحيد المهم للشباب في المدينة. تسلم كارميلو روميرو إدارة المهرجان، وبدأ بمد يده خلف جدار فرانكو الحديدي، ليحصل على الأفلام الثورية. عُرضت أعمال لفيليني وبازوليني وإنغمار بيرغمان وبونويل وغيرهم الكثير.
بدأت بعدها تتسارع وتيرة الحراك الثقافي، وتتزايد الضغوط من قبل الرقابة والشرطة. انطلقت العديد من التظاهرات والاعتصامات الطلابية بعد إحدى حفلات المغنية إليسا سيرنا، التي أقيمت في الحرم الجامعي، ودخلت الشرطة بأسلحتها الخفيفة لتفرق الجمهور وتنهي الحفل. اضطرت الحكومة إلى إيقاف السنة الدراسية بسبب الفوضى التي حدثت حينها، وما تبعها من أعمال شغب وإضرابٍ للعمال في المعمل، لكن العروض السينمائية استمرت.
تلقى مدير المهرجان اتصالاً من شركة وارنر بروس، وقالوا له إنّهم مهتمون بعرض فيلم "البرتقالة الآلية" في بلد الوليد، وكانت سمعة أفلام كوبريك قد وصلت مسبقاً، حاملة مفاهيم حداثية يسعى الطلاب إلى تحقيقها. اتصلت الشركة قبل عشرة أيام من العرض، وأرادت استعادة النسخة للتأكد من حالة الشريط، ليتبين لاحقاً أن كوبريك لا يريد عرضه في بلد الوليد بسبب سمعة المهرجان الدينية، ما اضطر مدير المهرجان للتوجه إلى مدريد حيث كان كوبريك حينها.
تحدثا عن كل شيء ما عدا السينما، بحسب ما قال المدير. تكشفت شخصية كوبريك البسيطة والمتواضعة، واقتنع في النهاية ووافق على العرض في حرم الجامعة، بعد أن غيروا لون الصالة لأنها لا تتناسب مع ألوان الفيلم. وهنا تتجلى كمالية كوبريك، اتفقوا أيضاً على دبلجة الفيلم إلى الإسبانية، وقام كوبريك بالتدقيق في كل كلمة ومعناها عند الدبلجة، فلغة الفيلم هي لغة كلغة الرواية المأخوذة عنها، مختلطة ما بين لغة الشارع وبعض الروسية والأميركية والبريطانية.
توافد آلاف الجماهير من داخل بلد الوليد وخارجها إلى شباك التذاكر، وبعضهم اضطروا للمبيت على باب الصالة ليحصلوا على تذكرة. نفدت التذاكر مباشرةً للعروض جميعها. اتصلت الشرطة خلال العرض الأول بالمدير، وأخبرته أن هنالك قنبلة في الصالة ويجب إيقاف العرض. كانت هذه الاتصالات شائعة حينها لإيصال رسالة للقائمين بأن العرض ممنوع، أخذ المدير على عاتقه مسؤولية العرض، ومضى الأمر بسلام إلى أن انتهى العقد مع الشركة، ليتحول العرض وما حدث حينها إلى جزء من الذاكرة الجمعية لبلد الوليد.
يختتم الفيلم بلقاء مع طلاب يدرسون السينما في إسبانيا، وسؤالهم عما يعرفون عن ذاك العرض. جميعهم لم يشاهدوا الفيلم لكنّهم يعلمون بعرضه. وبعد مشاهدتهم له، وحالة الصدمة التي مروا بها خلال العرض من قسوة الفيلم، يسألهم المخرج عن انطباعاتهم. تتفاوت الأجوبة غير الدقيقة، ليتوصل المخرج حينها إلى أنهم لا يستطيعون صناعة فيلم كهذا، ما يعتبر خاتمة غير موفقة لعرض متقن! فما لزوم أن نعيد صناعة فيلم "البرتقالة الآلية" أو نعيد اكتشاف الحديد على سبيل المثال، فالعبرة ليست بإعادة تصويره أو حتى تقليده، فـ"البرتقالة الآلية" فيلم يتحدث عن زمنه ومشاكله، وله معانيه الجمالية الخاصة التي تنبع من قصته وابتكاراته السردية التي ما زالت ساحرة إلى اليوم.
لزمننا هذا اعتبارات مختلفة، كاعتبارات الرقابة مثلاً، ووجود منصات البث واللامركزية للعروض المقرصنة. اضطر كوبريك، بسبب رسائل التهديد التي وصلت إليه بعد الفيلم، إلى سحبه من العرض في بريطانيا منذ سنة 1974 إلى 2000، ولم ير النور مجدداً إلا بعد رحيله عام 1999، فتحول الفيلم عندها في أماكن وأزمنة مخلفة إلى "برتقالة محرمة".