بدأت سلسلة أفلام "التطهير" The Purge عام 2013، ونالت شهرة عالميّة، كونها تؤكد فرضية مفادها التالي: في يوم واحد في السنة، ولمدة 12 ساعة، كل الجرائم في الولايات المتحدة تتلاشى، أي القتل والنهب والسرقة والتعذيب... كلها تفقد قيمتها القانونيّة. بصورة أخرى، تعطل السيادة السياسية دورها كضامن لحياة الأفراد، ليترك للأخيرين فعل ما يشاؤون، حرفياً ما يشاؤون. هذا النهار الاستثنائي، يحول البلاد إلى ساحة معركة، البعض يصفي أعداءه، والبعض الآخر يقتل للتسلية، والبعض يفضل الاختباء وتجنب الحدث كونه لا يؤمن بهذا الشكل من العنف.
الأفلام الأربعة الأولى من السلسلة، توضح لنا كيف بدأ هذا التقليد، وكيف فعّلته السيادة السياسية، لتحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعيّة في البلاد، خصوصاً في الفيلم الذي صدر عام 2018، "التطهير الأول"؛ إذ نكتشف فيه دور السلطة في تفعيل القتل، كون الناس، وبعكس المتخيل، لن يقتلوا بعضهم في حال عطّل القانون؛ أي أن القتل، تحركه السلطة دائماً وأبداً، وهي المسؤولة عنه.
هذا العام صدر الجزء الخامس من السلسلة باسم "التطهير للأبد" Forever Purge. وكما يتضح من العنوان، التطهير سيستمر لأكثر من يوم واحد، لكن الاختلاف أن الأحداث تدور في تكساس، حيث المهاجرون الذين وصلوا من المكسيك هم الضحية الأولى، بعد عودة تقليد التطهير الذي ألغي في السنوات الماضية.
يحاول الفيلم الإضاءة على التوتر العنصري في الولايات المتحدة. ونظن بداية أن رعاة البقر سيقتلون المهاجرين، أي العنصريين ضد اللاجئين، لكن نكتشف لاحقاً أن الأمر مجرد سوء فهم، خصوصاً حين تعلن جماعة من المتعصبين أن التطهير لن ينتهي، وسيقتلون الأغنياء البيض، والمهاجرين، وكل من يقف بوجههم، لنرى "البيض" و"السود" يداً بيد، يحاولون الخلاص. المثير للاهتمام أن المدافعين عن "التطهير للأبد" هم من البيض الفقراء، الذين يرون أن الأغنياء يأخذون أموالهم بغير حق؛ فالفيلم لم يعد عن العنف المجاني والرغبة بتصفية الأعداء الفرديين، بل أقرب إلى صراع طبقي، يشبه ما تشهده الولايات المتحدة الآن.
يحمل الفيلم داخله رؤية رومانسية من نوع ما، إذ تفتح كل من كندا والمكسيك الحدود أمام اللاجئين، الذين يتدفقون إلى البلدين بحثاً عن ملاذ آمن، لكن المكسيك تغلق الحدود لاحقاً، كونها لن تبقيها مفتوحة للأبد. هنا، نكتشف أن الحل الوحيد هو مغادرة الولايات المتحدة عبر "المهربين"، الذين هذه المرة ليسوا مكسيكيين، بل السكان الأصليون، الذين يعرفون خبايا الجبال والوديان، فهم ليسوا فقط أًصحاب الأرض، بل من يعرفون بدقة كيفية التنقل فيها في تجاهل تام للحدود السياسية.
تعطيل السيادة السياسية للجريمة، ودورها كحام لحياة المواطنين، يكشف لنا أن هذا التعطيل لا يمتد على التقاليد والأعراف التي لا دخل للسياسة فيها، فدور السكان الأصليين بوصفهم خارج الصراع، يجعلهم أشبه بأشخاص لا سياسيين، بل كحكماء ينتظرون انهيار البلاد، في ذات الوقت يمتلكون الدرب الوحيد للخلاص، ناهيك عن مهاراتهم القتالية غير المبررة، والتي لا نعلم لماذا يمتلكونها.
تتهم السلسلة دوماً بأنها تبسيط ليبرالي أحمق لسياسات الولايات المتحدة، خصوصاً في رهانها على "الشر" الأصيل الموجود في الناس، ناهيك عن الانتقاد الشديد للحق بحمل السلاح، وأن الناس لن يطلقوا النار على بعضهم بعضاً، أو يقتحموا المباني الحكومية. لكن بعد ما شهده الكابيتول في واشنطن، وتحول جماعة "كيو أنون" إلى ما يشبه مليشيا مسلحة أطلق عليها الرئيس الأميركي جو بايدن اسم "إرهاب محلي"، لا نعلم حقيقة مدى "حماقة" الفيلم، وهذا ما يثير الاستغراب في "الشتائم" الموجهة للفيلم، وكأنه وثيقة سياسية مطلوب منها أن تتوخى الدقة، بالنهاية هو فيلم متخيّل، "ساتيري" و"غروتيسكي"، لكن هذا لا ينفي أن فيه ما يمكن أن نجده في الواقع.