فيلمٌ أوّل يقول بامتلاك مخرجه الشابّ ثقلاً سينمائياً ومعرفياً. "الغريب" (2021)، للسوري أمير فخر الدين (1991)، يُحيل إلى مراجع سينمائية باهرة، يستعين بها في نسج حكايةٍ عن الأسى والاختناق والذاكرة والحرب والاحتلال، وهذا الأخير غير متمثِّل بالإسرائيلي فقط (مرتفعات الجولان المحتلّ)، بل بسطوة الذكوريّ والأبويّ والدينيّ أيضاً.
فصل الشتاء قارس، ولغة الصورة تجعل المناخ يتسلّل إلى مسام جسد وروح، فيخترق المُشاهِدُ كلّ حاجزٍ، لبلوغ عمق نصٍّ سينمائيّ، مشغول بدقّة حائكٍ وصبره وهدوئه. كلّ الغليان، النفسيّ والروحيّ في ذات عدنان (أشرف برهوم) تحديداً، مصبوبٌ في قالبٍ بشريّ يتفنّن برهوم، بما لديه من حِرفية وبراعة وجماليات أداء، في إخراجه (الغليان) من أعماق عدنان، بعنفٍ مبطّن، يعكسه وجهٌ وعينان ويدان وجسد وحركة ونبرة ونظرات، وهذا كلّه نتاج تفاعل واضح بين رغبات مخرج وحِرفية ممثل.
لكنّ الحِرفيّة غير باقية في إطارٍ مهنيّ بحت، لتمكّن أشرف برهوم من إضفاء ما يملكه من حساسية ورؤية وانفعال على المهنيّ، جاعلاً الشخصية كائناً حيّاً، يحمل أثقال بيئةٍ وأناسٍ، كحمله آلاماً وتمزّقات.
الصُّوَر، الملتقطة في طبيعةٍ غارقةٍ في ضبابٍ رماديّ اللون غالباً، وفي أزقّة قليلة ومنازل أقلّ، تُعين "الغريب" في عيشٍ غير سهلٍ أبداً. منذ اللحظات الأولى، يوضح أمير فخر الدين مفاصل أساسية في سيرة عدنان، بتبيانه العلاقة التصادميّة بينه وبين والده (محمد بكري)، والعلاقة المرتبكة بينه وبين زوجته ليلى (أمال قيس)، التي تُنجب منه ابنة (قمر حليحل). اللاحق تفعيلٌ لاضطرابات يعيشها الطبيب، الذي لن يُمارس مهنته، فالروح مُتعَبةٌ، والجسد مُنهكٌ، والنفس موجوعة. السرد، المائل أحياناً إلى صمتٍ ولقطات/مشاهد، يُعرّي أشياء كثيرة في تلك العلاقات والنفوس، وفي بيئةٍ جغرافية/دينية، يسمع ناسُها أصوات حربٍ دائرةٍ في بلد مجاور لهم (سورية).
لكنْ، من سيكون الغريب فعلياً؟ عدنان، أم ذاك الجندي الشاب الجريح، المتسلّل إلى البلدة هرباً من جحيمٍ يُطارده، ورغبةً في العثور على بقعة أرضٍ، فيها منزل أهلٍ غائبين؟ عدنان يعثر على الشاب، ويُقرِّر إنقاذه. هذا تمرّد أوّل، ووحيد، لطبيبٍ منفصلٍ عن واقعٍ وأناسٍ، لشعور عميق وحادّ باغترابٍ، يُغذّيه خوفٌ أو نقمة أو خيبة، أو ربما وعي مُسبق بخرابٍ لا نجاة منه. لن تكون معرفة أسباب حالته الراهنة مهمّة، فحالته راهناً أقوى، وأداء أشرف برهوم، الذي يظهر في المشاهد/اللقطات كلّها تقريباً، كفيلٌ بصُنع لوحةٍ سينمائية، يكون فيها نواة حبكة ومسار وانفعالٍ وتفاصيل، كمن يُدير عالماً متكاملاً من الأوهام والأسئلة والمخاوف والاضطرابات، والرغبات المقموعة.
لوحةٌ، تدفع إلى التمنّي بأنْ يكون "الغريب" بدايةَ تأسيس لجديدٍ لاحقٍ، يُثير انتباهاً وتأمّلاً ونقاشاً، بدلاً من أنْ تبقى مجرّد خطوة أولى لمخرجه، لا أكثر. لوحة تمتلئ بمفردات/سمات تُحيل إلى مراجع سينمائية باهرة، كاليوناني ثيو أنغلوبولس، والروسي أندريه تاركوفسكي، والهنغاري بيلا تارّ.
وجود جندي سوري شاب، هارب من حربٍ ولاجئ إلى بلدة محتلّة، يُثير شكوكاً ومخاوف في أناسٍ، بعضهم وجهاء يُديرون البلدة، ويُنظّمون عيش أهلها، ويُحافظون على تقاليدها. وجودٌ ينتهي بموتٍ، فيُقرّر عدنان دفنه، والجماعة غير معارضِة كلّياً. كأنّ دفن غريبٍ خلاصٌ لرجلٍ غريبٍ، مقهور ومتألّم وتائه، رغم أنّ رسالته (يقرأها بصوته في مونولوغ طويل وغير مُبرَّر درامياً كثيراً) مليئة بخرابٍ ومتاهاتٍ وأحزانٍ، تُحوِّل الخاتمة إلى ما يُشبه الميلودراما البكائيّة الثقيلة، رغم التصوير الباهر (نيكْلاس لاندْشَاو) للطبيعة والضباب، المتلائمين مع نَفْسٍ محطّمة، وروح ممزّقة، وبحثٍ غير منتهٍ عن تساؤلات تزداد حدّة وتعذيباً. ميلودراما غير نافعة وغير ضرورية، بعد سياقاتٍ درامية وجمالية موغلة في أحشاء أناس وأعماق مرويّات، صورةً وتمثيلاً وتوليفاً (أمير فخر الدين) وتصميم ديكور (بشّار حسّونة) وموسيقى (رامي نخلة).
هذا كلّه في "الغريب" ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الطويلة، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 مايو/أيار 2022) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)" ـ الذي تُتيح مشاهدته أكثر من مدخلٍ إلى تفاصيله ومزاجه ومسارات شخصياته وبيئاتها. إنّه "فيلم مشاعر"، يقول أمير فخر الدين ("رمّان الثقافية"، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021). مشاعر له ولأفرادٍ يعرفهم. يُشبه "كولاج مشاعريّ"، وفيه أسئلة تبدأ من شعور امرئ بأنّه مختلف، و"يُنظَر إليه كغريبٍ". هذا منطلقٌ إلى سرديات انفعالية عن أحوالٍ ومشاغل، تتوزّع حول عدنان، وتدفعه إلى مغامرة العيش في هاويةٍ، يُدرك أنّه غير خارجٍ منها. بأدائه الباهر، يمنح أشرف برهوم لعدنان كلّ حاجياته وانشقاقاته ورعبه وانكساره وألمه، كي يجعل من سيرته حكاية قهرٍ ودمار وغياب.
"الغريب"، الذي يُعرض مساء غدٍ الثلاثاء في النسخة الثانية (14 ـ 19 مايو/أيار 2022) لـ"مهرجان القدس للسينما العربية"، أول جزء من ثلاثية، يرغب أمير فخر الدين في تحقيقها: "هذا الفيلم عن غريبٍ بين أهله وناسه. الفيلم المقبل سيكون عن غريبٍ بين غرباء". يُضيف: "إنّ الثاني عن شخصٍ غير قادرٍ على العودة من المنفى/المهجر، بينما عدنان باقٍ في مكانه". ثالث الثلاثية عن امرأة، سيختتم بها فخر الدين مشروعه هذا، معتبراً أنّ المرأة "أملٌ وقدرةٌ على التحمّل والشجاعة".