لا يمكن تجاهل الضجة التي سببها الجزء الثاني من فيلم "بورات" الذي بث العام الماضي، إذ تورط العمل في قضية تشهير مع عمدة نيويورك السابق ومحامي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ترامب سابقاً، رودي جولياني، بعد أن كاد الأخير يتورط في فضيحة جنسية من تنسيق "بورات"، فضلاً عن الوجه المظلم والمتخلّف لأميركا الذي حدق فيه "بورات"، أو ساشا بارون كوهين، ضاحكاً وساخراً منه ومن "صورة " الولايات المتحدة، "أفضل دولة في العالم"، حسب الدعاية الوطنيّة الأميركية.
أخيراً، وفي امتداد للفيلم، بثت شبكة "أمازون برايم" سبع حلقات عنوانها Borat's American Lockdown & Debunking Borat. هذه الحلقات هي امتداد لما شاهدناه في الفيلم، إذ اضطر بورات إلى مشاركة جيم راسل وجيري هولمان منزلهما الريفي بسبب الحجر الصحي. وبالطبع، راسل وهولمان من البيض المتشدّدين؛ يؤمنان بأن هيلاري كلينتون تأكل الأطفال، وأن "كوفيد-19" وباء صيني يستهدف العالم لإبادته، وأن باراك أوباما مسلم حليف للشيطان يريد تخريب أميركا.
يحاول "بورات" في كل واحدة من الحلقات الإجابة عن واحدة من نظريات المؤامرة التي يتبنّاها الرجلان. أولاً، عبر طرحها والسخرية منها، ثم تنسيق لقاء بينهما وبين أحد المختصين، في تركيز دائم على ضرورة اللقاح وأهميته. وللتأكيد أنه لا توجد مؤامرة عالميّة لزرع رقاقات في أجساد من سيتلقون اللقاح. كما نشاهد محاولات جدّية لكشف حقيقة النظريات التي تقول إن المظاهرات والاحتجاجات التي عمّت الولايات المتحدة، إثر مقتل جورج فلويد، مدعومة من بيل غيتس، أي ببساطة، وجد الرجلان نفسيهما في مواجهة المختصين، أولئك الذين يشتمانهم ويريانهم أعداء؛ لنراهما تارة مصدقين، وتارة أخرى مشككين في ما يقال لهما. لكن الأهم، أنهما في كل لقاء يتضح لهما، وعبر صيغة الحوار نفسها، أنهما يقولان فقط ما يظنانه، من دون أي اعتماد على أي مصدر معلومات، سوى آرائهما ومنشورات على موقع "فيسبوك".
المرعب في الحلقات السبع أننا أمام عينة تمثل فئة في الولايات المتحدة؛ فئة لا نراها بهذه الجدية عادة، هي فقط محط للسخريّة والانتقاد في الثقافة الشعبيّة، إلى أن ظهرت بشكلها "الإرهابي"، وفقاً لتعبير الرئيس الأميركي جو بايدن، حين اقتُحم مبنى الكابيتول، في يناير/كانون الثاني. كما نتلمس محاولة دقيقة لإقناع الرجلين (وكل من مثلهما) أن التصويت عبر البريد هو الشكل الأشد ديمقراطيّة في الولايات المتحدة.
وهنا، يتضح أمامنا الأثر المرعب الذي تركه الرئيس السابق دونالد ترامب على الولايات المتحدة، وعلى فئة كبيرة من الأشخاص الغاضبين الذين لا يكتفون بالغضب والشتم، بل يرغبون في نشر أفكارهم، وهذا ما قاله هولمان نفسه، هو سعيد بأن هناك مساحة أمامه كي "يقول ما في عقله". هذه الرغبة في النشر والإيمان بامتلاك الحقيقة هي الرعب بدقة، كونها تنفي صوت كل "آخر"، كاذباً كان أو صادقاً، عالماً أو جاهلاً، لكن هذا نتلمسه في "إخراج" المسلسل. صحيح أنه يتيح "الحوار"، لكن كمية المعلومات وأساليب الإيضاح العلميّة تجعل من حجج الرجلين سخيفة؛ إذ نراهما أحياناً يرتبكان ولا يعلمان ما يقولانه، حين يسمعان الآراء التي ليست فقط تدحض كلامهما، بل تجعله مثيراً للشفقة.
المفاجأة أن هيلاري كلينتون تظهر في الحلقة الأخيرة عبر رسالة في فيديو مسجل، تخاطب عبرها الرجلين مباشرة، وتخبرهما عن مقدار الإهانة التي تتعرض لها هي وأسرتها حين تسمع الإشاعات والاتهامات التي تطاولها، وتتلخص بأنها تلتهم الأطفال الصغار، وأنها وزوجها جزء من مافيا سريّة تحكم أميركا. لكن رد فعل الرجلين لم يتغير، ما إن انتهى الفيديو، حتى قال هولمان: "لا أطيق هذه المرأة، لا أستطيع النظر إليها".
نضحك حين نشاهد المسلسل كثيراً، لكن تتخلل ذلك لحظات من القشعريرة، وعدم التصديق أنه في مكان من العالم، هناك مواطنون، يخضعون لسيادة أقوى دولة في العالم، ويمتلكون الحق بحمل السلاح، ويؤمنون بسخافات لا يمكن أن تدخل عقلاً. إيمانهم هذا يهدد حياة الكثيرين، يرفضون اللقاحات، ويريدون بناء جدار عازل وتكميم أفواه الصحافيين. وعلى الرغم من الجهود الحاليّة لتلميع ما قام به ترامب ومحبوه، لكن، هذه الفئة موجودة، ولا نعلم متى ستنفجر.