يعود زيكو/زياد (صالح بكري) إلى أهله وحيّه وأصدقائه، بعد أعوامٍ يمضيها في السجن. معرفة التهمة غير مُهمّة. الأهمّ يبدأ منذ لحظة عودته. أمّه (نبيلة زيتونة) تستقبله بعناق وحبّ ودمعة. والده (روجيه عساف) واقفٌ أمام نافذة، ينظر عبرها إلى لامكان، من دون أنْ يتحرّك. هناك شيءٌ ما ينكشف لاحقاً. يلتقي زيكو أصدقاءه الـ3: جورج (فادي أبي سمرا) وربيع (عصام بوخالد) وفادي (زياد صعيبي)، في حانة/مطعم (بإدارة محمد عقيل). أسئلة قليلة، كما الكلام بينهم. شتائم كثيرة تُقال، عادة، بين أصدقاء.
هذه بداية "بيروت هولدم" (2021)، للّبناني ميشال كمّون. بعد 15 عاماً على أول روائيّ طويل له، بعنوان "فلافل" (2006)، يُنجز كمون روائياً طويلاً ثانياً، له مشتركات مع الأول، تكون (المشتركات) سمة درامية وجمالية وإنسانية في اشتغالات مخرجٍ، يُنجز أفلاماً قصيرة، تتناول بيروت والفرد والموت والخوف والبحث عن خلاصٍ، في مدينة/مكان منغلق وضيق وخانق. مشتركات تظهر في الروائيّين الطويلين أيضاً: طرقات طويلة؛ ليلٌ شبه دائم؛ فردٌ يركض/يمشي بحثاً عن أحدٍ، أو عن نجاةٍ، أو عن هروبٍ، أو عن تسلّلٍ إلى حيّز/لحظة خارج الحصار النفسي (وحصار المدينة أيضاً)، والتمزّق الذاتي، والتوهان بين أشباحٍ وعمارة وأرقٍ وانكساراتٍ وفقدان.
مشتركات تصنع سينما تروي، بسلاسةٍ ظاهرةٍ، غلياناً وقهراً وألماً ورغباتٍ مكبوتة وفراراً مُعطَّلاً، وتبوح بحبّ مبتور، وموت طاغ، وعيشٍ قاسٍ في جحيم ذات ومدينة. العلاقات معطوبة، إنْ تكن في عائلة، أو بين أصدقاء، أو مع حبيبة أو مدينة. شخصياتٌ تلهث بحثاً عن أشياء وحالات وأناسٍ، والصدمات كثيرة، فالمدينة عاجزة عنْ أنْ تُتيح لناسها متنفّساً، والطرقات الطويلة والواسعة لن تكون مساحة حرية وخلاصٍ، إذْ تُثير مزيداً من قلق واختناق وغرقٍ في تناقضاتِ انفعالٍ وتأمّل، بقولها (الطرقات) إنّ المدى الطويل والواسع تأكيدٌ على أنّ الاختناق طويل، والحصار، رغم كون المساحة واسعة، يبقى حصاراً.
في "فلافل"، يلتقط توفيق (إيلي متري) نبض مدينةٍ غير قادرة على خروجٍ آمنٍ من حربها الأهلية (1975 ـ 1990)، بعد 15 عاماً على نهايتها الملتبسة والناقصة. يجول في أزقة وبين أبنية وفي مساحات مختلفة، بحثاً عن منفذٍ يسمح له باستعادة ذاته وانفعالاته وحياته. في هذا، شَبَهٌ بينه وبين زياد، العائد إلى حيّزه المكانيّ والبشريّ، فاقداً كلّ شيءٍ تقريباً، وساعياً إلى استعادة كلّ شيءٍ تقريباً. في يوميات توفيق حِدادٌ غير مُكتمل، كذاك الحاصل في يوميات زياد. الفقدان قاسٍ، لكنّ عدم الحِداد أقسى. بحث توفيق عن شيءٍ/شخصٍ/حالة منبثق من رغبةٍ، عميقة في الروح المعطوبة والجسد المنهك، في خروجٍ آمن وأخير من أعطاب وانهيارات. هذا بحثٌ يجهد زياد في بلوغ منتهاه المُريح، لكنّ التخبّطات وفيرة، والتحدّيات ـ في جوانب عدّة ـ وفيرة أيضاً، وقاسية.
يحاول زياد ترتيب أموره. قلّة المال عائقٌ. مقتل شقيقه (يُعرف لاحقاً سببه) يصنع شرخاً كبيراً في الذات والعائلة. يرتكز على أصدقائه، لكنّ سطوة الخراب تُزيد القهر قهراً، والألم وجعاً. تفاصيل كثيرة تحصل بين الأصدقاء وعائلاتهم، وبين زياد ومشاعره إزاء كارول (رنا علم الدين)، غير المتحمّلة وضعاً قاسياً وضاغطاً كالذي تُقيم فيه منذ تعرّفها إليه قبل أعوام مديدة. شقيقها سامي (سعيد سرحان) مرتبكٌ ومُتعَب، فهناك ثقلٌ ضاغطٌ، والصدام مع زياد آتٍ لا محالة، لكنّ المواجهة والصراحة أهمّ. لكلّ صديق عائلة: جورج، صاحب كاراج سيارات، مُتزوّج من ريتا (نيكول كاماتو)، لكنّ الهوّة بينهما سحيقة. ربيع، فارس السباقات، مُقترن بنايلة (أنجو ريحان)، ولاحقاً، يتزوّج فادي رشا (زينة صعب دي ميليريو). هذا غير حاجبٍ مآزق يُعانيها الجيمع، وبعض تلك المآزق تنشأ من ورطةٍ، يضطرّ زياد خوضها، فيقع معه آخرون.
أما العنوان، فاختزالٌ لنمط عيشٍ في بلدٍ واقعٍ في هاوية الخراب والموت. مستوحى من لعبة "بوكر"، معروفة باسم "تكساس هولدم"، تقول برهان أعمى يدفع صاحبه إلى الذهاب بعيداً في المخاطرة، غير المقيّدة بحدود. هناك من يصف اللعبة بـ"الروليت الروسية" أيضاً، وهذا أصدق وصفٍ لعيشٍ راهنٍ في بيروت.
النص (سيناريو ميشال كمون) مليء بلحظاتٍ تؤكّد أنّ حرباً ما مندلعةٌ في المدينة والنفوس، وأنّ القلق والأرق والتوهان سمات لبنانية بامتياز، وأنّ العفن يُعشّش في أرواح وذوات. كلّ التساؤلات المطروحة، مباشرة ومواربة (والمواربة فعّالة وجميلة، إذْ تظهر في موقفٍ أو لحظة أو حالة أو انفعال أو حركة أو تعبير)، تبقى مُعلّقة، فلا إجابات، حاسمة وغير حاسمة، في بلدٍ وحياةٍ، وطبعاً في السينما، غير المعنية إطلاقاً بتقديم إجابات.
هناك شخصيات تظهر قليلاً، لكنّ ظهورها مؤثّرٌ في سياقٍ أو سيرة شخصية وحياتها وعلاقاتها، أو مُفسّرٌ لحالة وموقف ومسألة، من دون تنظير: جاك (طلال الجردي)، صاحب اصطبل يعمل ربيع عنده. عشيقة (ريتا حايك)، يلتقيها زياد في ملهى ليليّ، وبعد إنقاذه إياها من وحشٍ يُعنّفها، تُصبح عشيقته بكلّ ما في العشق من حبّ وهيامٍ، قبل أنْ يُخطئ معها غصباً عنه. صاحب محل لانجيري (ميشال جبر)، يُدين لزياد بـ20 ألف دولار أميركي. شخصيات كهذه تمنح النصّ صُوراً تكشف شيئاً إضافياً من عالمٍ غارقٍ في خرابه وعفنه وفساده، من دون تغييب جمالٍ ما، فأم زياد انعكاس لمعنى أنْ تعيش الأم فقداناً متنوّعاً، وجانبٌ من زياد نفسه يريد خلاصاً حقيقياً، من دون بلوغ حدّ أدنى منه على الأقلّ.
إنْ يكن تصوير (سيلين بوزون) بيروت، ليلاً ونهاراً، عاملا فاعلا في تعرية المدينة وناسها وعلاقاتهم، فإنّ المونتاج (باميلا غنيمة وميشيل تيان وجاك كوميتز) يُحوِّل النص إلى فيلمٍ، تعتريه هنات قليلة في أداءٍ أو لقطةٍ أو أسلوب حكي أحياناً. ولعلّ وفرة الموسيقى (سينتيا زافين)، رغم حاجةٍ درامية وجمالية إليها (الموسيقى) غالباً، تحول دون تواصل أكبر وأعمق، فالتوتر والقلق والغليان، وانعدام التوازن واختلال الحبّ وتمزّق جدران المدينة والنفوس والمشاعر، كافيةٌ لإبراز المخفيّ في الفرد ومدينته.
أما صالح بكري، ففي تمثيله زياد، بكلّ ما يحمله من قهر وخيبات وانهيارات ورغبات، ما يدعم الشخصية في كونها محوراً وركيزة ونواة، يُبنى عليها النصّ ومسارات شخصياته. اتقانه "اللغة" اللبنانية، هو الفلسطينيّ القادم إلى السينما اللبنانية حديثاً (له دور أساسي في "كوستا برافا"، 2021، للّبنانية مونيه عقل)، متوافقٌ وإتقانه السينمائي كيفية عيش واقع الشخصية وتركيبتها النفسية والروحية والجسدية.
مع ميشال كمون و"بيروت هولدم"، يُصبح للتمعّن في المدينة والحياة والانفعال والعلاقات والأفراد معنى أعمق وأجمل، وأقسى أيضاً.