ذكريات شخصية، تُضاف إليها وقائع يعيشها أناسٌ يروون تجاربهم فيها أمام من يحفظها كذاكرةٍ جماعية، وحكاياتٍ خاصة بأفرادٍ. هؤلاء الأفراد يتناقلونها في ما بينهم، فتصنع جزءاً أساسياً من وعي ومعرفة وأسلوب حياة وسلوك عيش وعلاقات.
ما يفعله الكردي السويسري مانو خليل (دارس الحقوق والتاريخ في دمشق، والسينما في تشيكوسلوفاكيا السابقة)، في جديده "جيران" (2021)، منبثقٌ من حالةٍ كهذه: مزيجُ ذاكرة وذكريات ومتخيّل سينمائيّ يُترجِم، بصرياً، أحوال بيئة وأناسٍ، في زمنٍ محدّد. المتراكم في وعي فرديّ (مانو خليل) ينفتح على المُتداول الجماعيّ، فتُكتب حكاية تُصبح نواة درامية لسيناريو سينمائي، ينفتح على السياسيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ والانفعاليّ، في بداية ثمانينيات القرن الـ20، في "سورية الأسد".
العائلة واللغة والمسالك الاجتماعية والعلاقات التي تتجاوز الدينيّ ـ الطائفي ـ القوميّ ظاهرياً (لمحاتٌ عدّة تقول، مواربة، إنّ هناك انكماشاً داخلياً يفرض التزاماً بعقائد دينية واجتماعية وقومية، وتقوقعاً فيها)، تتجاور، سينمائياً، مع سرديّاتٍ عن كيفية البطش بأقليات، وتهميش ثقافةٍ وتقاليد بحجّة الانتماء إلى قومية واحدة في بلدٍ واحد، رغم أنّ الهدف واضحٌ: إلغاء الخصوصيات قمعاً وقهراً.
"جيران" يستند إلى هذا كلّه. ومع أنّ كلّ مسألة من "هذا كلّه" تُفيد في إنجاز أكثر من فيلمٍ، يتمكّن مانو خليل، بجمالية سينمائية، من تحقيق معادلات فنية ودرامية وسردية بينها كلّها، من دون الإخلال بأولوية الصورة ومفردات تعبيرها، كما بأهميّة النصّ ومسائله، المنقولة إلى متتاليات بصرية تروي، تمثيلاً ومعالجةً ومساراً ولقطات، فصولاً من تاريخٍ غارقٍ بالقمع والقهر والبطش، وتطرح تساؤلات عن هوية وهجرة وعلاقات خارج الموروث المنغلق على نفسه.
يَخرج مانو خليل من سرديّة نضالية، فالاهتمام الوحيد واضحٌ تماماً: تحقيق فيلمٍ سينمائيّ، يتضمّن ما يُمكن اعتباره سرديةً نضالية. والسردية هذه غير سلبية، مع أنّها غير أساسية، فمفرداتها موزّعة في سياقٍ دراميّ، يسرد يوميات أناسٍ يُقيمون في بلدة واحدة (القامشلي)، تقع على الحدود السورية مع تركيا. سياق منشغلٌ أساساً بكيفية تشييد عمارة سينمائية بأدواتٍ، تعكس شيئاً من حياة، فردية وجماعية، وشيئاً من آليات قمع وقهر، وشيئاً من كيفية تمزيق اجتماعٍ، مبنيٍّ أصلاً على تفاهمٍ ضمني بين مكوّنات اجتماعية مختلفة الأديان والأعراق والثقافات.
الإسراف بقراءة النصّ لن يحول دون تنبّه إلى جمالياتٍ سينمائية، في فيلمٍ يساوي بين تصوير وقائع حيّة ومنح الصورة حيّزها الأساسيّ. التقني والفني حاضران بفاعلية جمالية في مواكبة النصّ وسرديّته، المنفلشة أيضاً على البشريّ (الفرد ككائن حيّ في مواجهته اليومية جماعة تُريد إلغاء حضوره وكيانه وخصوصيته بالقوّة) والثقافيّ (أستاذ المدرسة الصارم في التدريس باللغة العربية، وفي فرض اللغة العربية بالقوّة على الجميع) والعاطفيّ (حبّ بين كرديّ ويهودية). هذا كلّه مرويٌّ من خلال شيرو (سرهد خليل)، ذي الأعوام الـ6، الذي يستعيد حكايات حاصلةٍ قبل 40 عاماً، فيكشف سِيَر أناسٍ وبيئة وتقاليد ووقائع، بعينين ساحرتين، وانفعالاتٍ مؤثّرة، ورغبات بسيطة (يريد جهاز تلفزيون لمشاهدة أعمال "كرتون"، لكنْ لا كهرباء في البلدة)، ومعاينة صائبة ودقيقة للحاصل معه وحوله، وإنْ يكن غير مُدركٍ، حينها، أنّه يُعاين ويُراقب ويوثِّق ويحتفظ في ذاته هذا الحاصل معه وحوله.
النواة الدرامية الأساسية مرتبطة بشيرو. يتّضح هذا منذ الدقائق الأولى لـ"جيران"، التالية لبدايةٍ تجري وقائعها، في ثوانٍ قليلة، في مخيّم للاجئين الأكراد في العراق. الدقائق الأولى كافيةٌ لتأسيس نصّ سينمائيّ، يعود 40 عاماً إلى القامشلي، في بداية ثمانينيات القرن الـ20. التحديد التاريخي غير مهمّ، فتفاصيل لاحقة تُظهِر أنّ الزمن عائدٌ إلى فترة حكم حافظ الأسد، والأستاذ (جلال الطويل) تمثيلٌ لنظامٍ قامع وقاهِر، رغم أنّه (الأستاذ) سيكون أحد ضحاياه، عبر تجاهل النظام له، خاصة في مسألة الاحتفال بوصول الكهرباء إلى البلدة. شيرو كردي غير عارف اللغة العربية. جيران أهله يهودٌ يُتقنون الكردية والعربية. أهله مسالمون، في محيطٍ أكبر، مليءٍ بتجاذبات وتمزّقات ومخاطر. التواصل مع أقارب مُقيمين في تركيا يحصل، بين وقتٍ وآخر، في مكانٍ عسكري يفصله سلك شائك بين سورية وتركيا. الجنديان، السوري والتركي، يتوافقان ضمنياً على إذلال الكردي وإهانته.
كلّ شيءٍ ينقلب بقسوة في يوميات شيرو وأهله وجيرانه، عند مقتل والدته برصاصة تركية غير مقصودة. هذا مفصلٌ قاسٍ، يُضاف إليه مفصلٌ لن يكون أقلّ قسوة: أستاذٌ يُجبره على التحدّث باللغة العربية، وهو غير عارفٍ إياها. مفاصل أخرى، ستكون قاسية أيضاً: انعدام الكهرباء في بلدته. سجن عمّه الذي يُحبِّه كثيراً، ثم هروب العمّ من البلدة. سفر الجارة اليهودية مع أمّها. يوميات بلدة. إلخ.
سرديّة "جيران" مرويّة بلغة سينمائية، تُمتّع عيناً رغم ما فيه من قسوةٍ وعنادٍ وتحدّياتٍ.