تخرج فاتن (إلهام شاهين) من السجن، بعد 20 عاماً. يُسرع حسن (أحمد مجدي) وزوجته ليلى (أمينة خليل)، ابنة فاتن، في العودة إلى المنزل معها، فحظر التجوّل يبدأ بعد وقتٍ قليل، وعلى حسن أنْ يتناول طعام الغداء معهما، ومع ابنته دنيا (جدى محمد)، قبل توجّهه إلى المستشفى، فهو طبيب، يختار كلّ ليلة دواماً لعمله. الساعات الفاصلة بين بدء حظر التجوّل (مساء) ونهايته (صباح اليوم التالي) ستكون زمناً درامياً لتصوير مشاعر وحالاتٍ، عبر سرد حكاية تُنتج فروعاً وهوامش. إنّها ليلة واحدة من ليالي خريف 2013. المنزل يتّسع لأفرادٍ قلائل، سيمضي اثنان منهم (ليلى ووالدتها) تلك الليلة معاً بتوتّر وتشنّج، ترتفع حدّتهما عند ليلى، منذ معرفتها بموعد إطلاق سراح فاتن. لاحقاً، ينكشف سبب توتّرها وتشنّجها، اللذين يرافقانها تلك الليلة، قبل التخلّص منهما شيئاً فشيئاً. لفاتن توتّر آخر، وكشف الذات يحدث بعد سجالات وتفاصيل وخبريات تحصل بينهما.
كلّ شيء واضح منذ البداية، في جديد المصري أمير رمسيس، "حظر تجوّل" (2020)، المعروض للمرة الأولى عربياً ودولياً في الدورة 42 (2 ـ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". غير الواضح يتّضح بعد وقتٍ قليل. شخصيات أخرى تظهر، بعضها أساسيّ في ذاكرة وماضٍ، كيحيى (الفلسطيني كامل الباشا). لخيري بشارة مرور عابرٍ في مشهدٍ، يراه البعض نافراً ولا حاجة إليه البتّة: صاحب دكانٍ صغيرٍ، يسهر الليلة كلّها وحده، مع تلفزيون وهرّ، لعلّ أحد الجيران يريد غرضاً في تلك الليالي الممنوع على الجميع فيها الخروج من منازلهم. شبابٌ قلائل يسهرون ("كلّ ليلة"، كما تقول ليلى لفاتن) على سطح المبنى نفسه، مع موسيقى صاخبة، وزجاجات البيرة تملأ المكان، والحشيش عامرٌ، والهواء مفتوح على ليلٍ دامسٍ. جارة عجوز مريضة (عارفة عبد الرسول)، توهم المحيطين بها، وبينهم ابنتها سلمى (مهرة مدحت)، بأنّها "تنسى"، وابنتها قريبة حسن، وهما صديقان منذ الطفولة.
تمضية فاتن 20 عاماً في السجن منبثقةٌ من "ثبوت" تهمة قتلها زوجها. الحكاية المروية تقول إنّ القتل ناتجٌ من فضح الزوج علاقتها العاطفية بيحيى، الذي سيُنبَذ ـ بأشكالٍ مختلفة ـ زمناً طويلاً، لكنّه يصمد في منزله في المبنى نفسه، وحيداً مع أغنياتٍ قديمة وذكريات حيّة. ستتوضّح المسألة لاحقاً، رغم أنّ تعريف "حظر تجوّل" يقول بطرح سينمائي لمسألة "سفّاح القربى"، ورغم أنّ إيحاءات عابرة تظهر تباعاً لتكشف السرّ بهدوء. لكنْ، هناك مخفيّ ينكشف تدريجياً، والحبكة متنوّعة التفاصيل: هناك حبّ وانتظار وقهر وتضحيات وخيبات. هناك علاقات مُعطّلة، ومصالحات غير مُكتملة، ورغبات مكبوتة، وندم قاسٍ، وآلام ثقيلة، ومواجع غير هادئة. بهذا، يخرج "حظر تجوّل" من حكاية أبٍ يعتدي جنسياً على ابنته الصغيرة، ليروي سيرة أمّ تدفع ثمن جريمة قتل لإنقاذ ابنتها، وقصّة عاشقٍ يواجه محناً ومآسي، بانتظار استعادة حبٍّ مفقود، وتفاصيل أخرى.
كشف بعض المخفيّ، المنكشف في ختام السياق الحكائيّ، لن يحول دون متابعة تفاصيل تصنع متناً، يتناول (المتن) اعتداءً على طفلةٍ. التفاصيل أهمّ. الاشتغال السينمائيّ على بعضها منبثقٌ من اختبارٍ مديدٍ لمخرجٍ، يتفنّن في اللعب البصري في التفاصيل وعليها ("بتوقيت القاهرة"، 2014، مثلاً). "حظر تجوّل" يخوض في أسئلة غير محصورة بمسألة واحدة. الشخصيات (اثنتان منها تتصارعان بسبب ماضٍ يحضر في لحظة اللقاء المؤجّل بين أمٍّ وابنة) تتعرّى أمام كاميرا (عمر أبو دومة) هادئة في التقاطها جوانب وخلفيات، كالتقاطها نبض النصّ الأصليّ وروحه.
هذا كلّه يظهر تدريجياً، بعد مسارٍ، تريد فاتن الاستفادة منه لترتيب أمور علاقتها بابنتها، الغاضبة عليها في 20 عاماً. غضب ليلى مشروع، لعدم معرفتها سبب إقدام والدتها على الفعل الجُرميّ. الأقاويل تتكاثر، والنفس مُحطّمة، فالغياب يُصيب أباً تتعلّق به الابنة منذ صغرها، ويُصيب أمّاً تُسبِّب غياب الأب، فتنفضّ الابنة عنها. "حظر تجوّل" يخترق بعض مسام تلك المسائل. كأنّه، باستعارته تعبيراً عسكرياً أمنياً مفروضاً على القاهرة في مرحلة لاحقة على انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي، يؤكّد أنّ هناك "حظر تجوّل" أخطر يحدث داخل جدران منزل، وفي نفوسٍ وأرواح وانفعالاتٍ.
رغم فوزها بجائزة أفضل ممثلة، في "مهرجان القاهرة السينمائي الـ42" (مناصفة مع ناتاليا بافلينكوفا، عن دورها في "مؤتمر" للروسي إيفان إفانوفيتش تْفردوفسكي)، تبدو إلهام شاهين غير متلائمة كلّياً وشخصية امرأة، يُفترض بها أنْ تجمع في ذاتها مزيج العاشقة والصديقة والأمّ والجدّة، وأيضاً المرأة التي تختبر قسوة الحياة وتتلقّن فنون المواجهة والصبر والقوّة في 20 عاماً من العيش في زنزانة. امرأة تخرج من جحيم أرضٍ يُفرض عليها لفعلٍ تراه ضرورياً لحماية وخلاصٍ، وتواجه تحدّياً أقسى من سجنٍ وهلاكٍ جسدي: تصفية الشوائب في علاقتها بابنتها الوحيدة.
هناك ما يحول دون قبول الممثلة في شخصيةٍ، يُفترض بها أنْ تكون مُثقلة بسنين وإجحافٍ ونبذٍ، وتتوق إلى سلامٍ تتوقّع صعوبة تحقّقه سلفاً، لوضوح الرؤية عندها. في أكثر من تواصلٍ بينها وبين ابنتها، تتفوّق أمينة خليل عليها بأداء يعكس طبيعة تلك الشابّة المجروحة والمُتعبة والمصدومة، والساعية بجهدٍ إلى معرفةٍ وراحةٍ.
مشهد السطح، مع شبابٍ يريدون تنفيساً لهم من ضغط يومي، يؤكّد ابتعادها عن مضمون امرأة يُلقّنها السجن كيفية التعاطي مع أفرادٍ كهؤلاء، فإذْ بصراخها على أحدهم لإخافته يُثير سخرية لشدّة خوائه، ولمبالغة شاهين في تأديته الفاشلة. وعند اضطرارها لاحقاً لطلب العون ممن أذلّته أمام نفسه ورفاقه، يزداد فشلها الأدائيّ في تلبية المطلوب من امرأة كتلك. الرحلة بين المنزل والمشفى، إثر تعرّض دنيا لاضطراب صحّي، يُؤكّد المؤكّد: خليل تُبدع أكثر، وشاهين ترتكز على نجومية سابقة لها، تحتاج (النجومية) إلى غربلة نقدية.
القول إنّ مشهد خيري بشارة غير ضروري، لانتفاء الحاجة إليه، في السياق الدرامي للأحداث، غير صحيح كلّياً. البائع وحيدٌ في ليلٍ قاهرٍ، والرغبة في شراء سجائر تُلحّ على سيّدة تعاني أرقاً وقلقاً إزاء ضغط حاصل عليها، لابتعاد ابنتها عنها. خيري بشارة نفسه أقدر على منح شخصية البائع حضورها المطلوب، جسداً وحركةً وسخرية وألماً دفيناً ووحدة قاسية. هذا يمنح المشهد بعض جمالٍ، رغم أنّ إلهام شاهين تحافظ على شكلٍ واحد ونسقٍ واحدٍ وانفعالٍ واحد في تمثيل شخصية فاتن.
أما أحمد مجدي، فمتكاملٌ وشخصية حسن، المتسامح والهادئ، والراغب في صفاء قلوب وراحة بال وتحرّر من ماضٍ ثقيل، والعارف كيفية إيجاد توازنٍ بين أمٍّ تريد انبعاثاً من أجل حياة جديدة، وابنةٍ تبحث عن أجوبةٍ لتُدرك خلاصاً منشوداً، وحفيدة تكشف ذكاءً ومراقبةً في مواكبتها المرحة لتلك الساعات القاسية. أمينة خليل، في ارتباكات ليلى وغضبها ومواجعها وتوقها إلى معرفةٍ وتصالحٍ وأمانٍ وتعويضٍ عن نقصٍ وفراغٍ، تعيش الحالات كلّها بعفوية وإتقانٍ وجمالٍ. وحده كامل الباشا يُنافسها في هذا، بتأديته الرائعة دور رجلٍ (أيكون اسم يحيى إحالة وتحية إلى يوسف شاهين، المولع بهذا الاسم ومعانيه) يعاني تداعيات لحظةٍ غير مسؤول عنها، فيتحمّل سنوات مديدة من القهر والخيبة والانتظار، إكراماً لحبٍّ لن يكتمل. الباشا، في وحدته وعزلته وعيشه بين جدران منزلٍ وذكرياتٍ، فنان بديع في قول أشياء كثيرة، بنظرة أو حركة أو ملمح، وعند كلّ كلامٍ يتفوّه به يُدرك تحويل الجمل إلى مفرداتٍ مبسّطة تُكمِل بوحاً وانفعالاً بنبرة سلسة وعميقة وحاذقة ومعبِّرة.
إذاً، أيكون "حظر (الـ)تجوّل" هذا في أفرادٍ وبين أناسٍ، لا مجرّد تدبير أمني في مدينةٍ، تعاني انعدام رؤيةٍ، بعد انقلابٍ عسكري جديد يُطيح بانتخاباتٍ، ويُبدِّل مسارات، ويعطب أحلاماً؟