الأفلامُ الجزائرية المهمّة، التي تناولت قضايا المجتمع ومشاكله وتفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها الفرد، قليلةٌ. تعالَتْ عليه، وذهبَتْ إلى الأفلام الثورية، التي لها حصّة الأسد في الإنتاج العام، تليها مواضيع العشرية السوداء. أي أنّ ثيمات السينما الجزائرية باتت محصورة في خطّين أساسيين: الثورة التحريرية والعشرية السوداء، وكلاهما يعالج قضايا الكفاح والمواجهة والعنف، فتُتنَاسى ـ وسط هذا ـ هموم المواطن العادي، ومشاكله اليومية التي تنخر جسده ونفسيته يومياً.
لكنّ هذا لا يعني أنْ لا أفلام تتناول هذه الثيمة، الموجودة، لكن قليلاً، من دون أنْ تعكس توجّهاً، أو تخلق تياراً، كـ"القلعة" (1989) لمحمد شويخ، و"ريح الجنوب" (1975) لمحمد سليم رياض، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه لعبد الحميد بن هدوقة، و"عمر قتلاتو" (1976) لمرزاق علواش، أحد أهم الأفلام الخارجة على سياق السينما الثورية، التي (الأفلام) قطعت خطّها الفاصل والممتد، من قلب الثورة (1954 ـ 1962) إلى ما بعد الاستقلال (5 يوليو/تموز 1962)، وأصبح الخروج منها ومن مواضيعها نوعاً من عبثٍ وطيش، في نظر المجتمع والسلطة. علواش استطاع أنْ يكسر هذا الخطّ، ويصنع فرقاً، ويؤسّس مرحلة مهمّة من تاريخ السينما الجزائرية.
الفيلم الجزائري "حلم" (2021)، أول روائي طويل لعمر بلقاسمي (مساعد مخرج وكاتب سيناريو منذ عام 2010، أخرج فيلمه القصير الأول "ضياء" عام 2015، وله فيلم متوسّط الطول بعنوان "الموجة")، ذهب إلى الهامش، مقترباً من الفضاءات الريفية في منطقة القبائل (الفيلم ناطق بالأمازيغية)، حيث تعيش مجتمعات في القرى الجبلية البعيدة عن المدن، يحيط ناسها أنفسهم بقوانين وأعراف ورثوها جيلاً بعد جيل، يُسيّرون بها الشؤون الاجتماعية والدينية والتفاصيل اليومية للأفراد، بعقلية الماضي، وانطلاقاً من عادات وتقاليد موروثة من قرون. هذه المعطيات لم تعد تصلح لهذا الجيل، ولم تعد تُلبّي متطلّباته. لذا، يجد الجيل الجديد نفسه في مواجهة مستمرة مع اللجنة، التي تعرف بالأمازيغية بـ"ثاجماعث"، أي "الجماعة"، التي تتكوّن من أفرادٍ يمتلكون سلطة عرفية لتسيير شؤون القرية.
في "حلم" ـ الفائز بجائزة "الفيدرالية الأفريقية للنقد السينمائي (FACC) في الدورة الـ32 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"أيام قرطاج السينمائية" ـ استطاع المخرج وكاتب السيناريو عمر بلقاسمي أنْ يحيط بجوانب هذا الموضوع، مُظهراً العيوب والأعطاب التي تؤذي الأفراد بسبب تلك القوانين العرفية.
إنّها قصّة الشاب المحبوب والطيب كوكو (كسيلة مصطفى)، ذي الـ20 عاماً، الذي يدخل في مواجهات مستمرّة مع لجنة شيوخ القرية، ومع والده الذي يساندها، لكونه عضواً فيها. هذا بسبب التصرّفات الإنسانية، التي يراها كوكو صائبةً، انطلاقاً من روحه النقيّة وسجيّته. هذا لا يراه هؤلاء الشيوخ، الذين يعتقدون أنّه خرج على طاعتهم وهيبتهم، لأنّه بسلوكه هذا تحدّاهم. أكثر من ذلك، هو يعزف على آلة القيثارة، ويغنّي ويرقص، إضافةً إلى مظهره المختلف، بسبب إطلاق شعره، الذي يرفضونه من منطلقٍ ديني ومجتمعي، ويعتبرونه خروجاً على الأعراف والنظم، فيُقرّرون نفيه من القرية، وإرساله إلى مستشفى الأمراض العقلية بحجّة الجنون.
أخوه محمود (محمد لفقير)، مُدرّس الفلسفة في مدينة بجاية، يرفض قرار النفي والإرسال، بعد علمه به عند زيارته القرية، فتبدأ معركة تبرئة كوكو، وإعادته إلى القرية، ثم التفكير في هجرها نهائياً، ما يتطلّب عملاً مٌجهداً لإقناع والده وأعضاء لجنة الشيوخ بهذا.
في "حلم" (إنتاج مشترك بين "المركز الجزائري لتطوير السينما" و"شركة Agence Visual)، قدّم عمر بلقاسمي نقداً لاذعاً للسلوك السلبي، الصادر من لجنة شؤون القرية، التي يجتمع أعضاؤها أسبوعياً، للنظر في قضايا لا يعرفون شيئاً عن الكثير منها، فتكون معظم الأحكام غير مؤسّسة. إضافةً إلى تقديمه صُوراً عدّة، تُظهِر عدم احترام المرأة، والتعامل معها بدونية، موظّفاً مشاهد كثيرة في خدمتها لترسيخ الفكرة، كالمسافات الطويلة التي تقطعها أم كوكو ومحمود، وهي تحمل أكوام الحطب، رفقة زوجها، الذي لا يساعدها؛ وإسكات صوت الشقيقة جوراً، وعدم إعطائها الحقّ في الحلم، كغيرها من الفتيات؛ والأعمال الشاقّة التي تقوم بها نساء القرية، كالرعي والزراعة، إلى جانب الأعمال المنزلية. في المقابل، يجتمع الشيوخ وسط القرية للنظر إلى النساء، والتلصّص على رقصهنّ من ثقب الجدار، وفي الوقت نفسه يحاكمون كوكو.
احتفل بلقاسمي بمظاهر عدّة تبرز الهوية الأمازيغية، كتجمعات النسوة، وعملهنّ الجماعي في الرعي، وجلب أكل الماشية من الغابة، وغنائهنّ، وطريقة احتفالهنّ. ذهب أكثر من ذلك، بتوظيفه حفل زفاف، بدءاً من جلب العروس، والسير بها في موكب في شوارع القرية، والرقص والغناء في أحد المنازل. ووسط هذا، أظهر لباسهنّ المميّز، والغناء الموروث للنساء المتقدّمات في السنّ؛ كما أظهر السلوك السلبي، داعياً ـ بشكلٍ غير مباشر ـ إلى التخلّص منه.
تعاون بلقاسمي مع الممثل والمخرج والكاتب الفرنسي يان سيورين، ليكون مدير التصوير، الذي تمكّن، بذكاء، من خلق كادرات استثنائية عدّة، نقل عبرها جمال منطقة القبائل وسحرها، وتحديداً قرى أعالي الجبال. كما اختار الوقت والمكان المناسبين للتصوير، ما ضمن للفيلم جماليات إضافية، ولّدها الضباب والخضرة الممتدة والعلو الشاهق، والمناظر البانورامية التي تُظهر القرى والجبال البعيدة. هذا ساهم في خلق عمق بصري وروحي، مَدّ جسر تواصل بين موضوع الفيلم والبيئة التي جرت فيها الأحداث، لتتفوّق الجمالية البصرية على باقي الجماليات، إذْ ضُبطت في المونتاج (كارولين بيوريه)، ما أوجد انسجاماً وسلاسة في توليد المعاني القوية، بين العواطف الداخلية للشخصيات، والمناظر الخارجية، التي تساعد على ضبط النفس، والتفكير بهدوء، لاتّخاذ القرارات الصائبة، كما فعل محمود وكوكو.
استطاع كسيلة مصطفى أنْ يعكس أبعاد الشخصية (كوكو)، نفسياً وجسدياً، رغم أنّها أول تجربة له في التمثيل. أدّى شخصية شاب نقيّ وطيّب، يساعد غيره من دون انتظار أي مُقابل. هذا فعله محمد لفقير الذي له تجارب عدّة في التمثيل، إضافة الى تجربته المسرحية. لهذا، لم يجد صعوبة في الاندماج بالشخصية (محمود)، عاكساً صورة الشاب العقلاني، الذي يبحث عن حلول عملية، ويريد التحرّر من قيود القرية التي أرهقته، وأرهقت أخاه وكلّ أترابه.
يشتبك "حلم" (Argu، كما يُنظق باللغة الأمازيغية) ـ الحاصل على "جائزة الاستغلال التجاري" في الدورة الـ43 (15 ـ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان السينما المتوسطية (Cinemed)" في مونبيلييه الفرنسية ـ مع مشاكل الحاضر من دون التخلّي عن الماضي. يعيد صورة السينما الأمازيغية إلى الواجهة، بعد غياب وميضها في الأعوام القليلة الماضية، ويقدّم جولة بصرية، غاية في النقاء، لمناطق القبائل وقراها المنتشرة في أعالي الجبال الغابية، إضافةً إلى تطرّقه إلى موضوع حسّاس للغاية: لجنة "ثاجماعث"، التي تصدر الأحكام، وتلزم سكّان القرى بتنفيذها، ما يُسبّب إحراجاً للفرد، ومشاكل عصرية له، وللمؤسّسات الرسمية التي يمثّلها جهاز العدالة.