بين 11 و16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، انعقدت الدورة الـ19 لـ"المهرجان الدولي لفيلم التحريك (فيكام)" بمكناس، في ظروفٍ استثنائية، أفتتها إجراءات الخروج التدريجي من تداعيات كورونا على تنظيم التظاهرات الفنية في المغرب. هذا دفع المنظّمين إلى تبنّي صيغة اللقاءات المهنية كمرتكز للبرنامج، إلى جانب عروض سينمائية، ولقاءات "ماستركلاس"، احتضنها فضاء "المعهد الفرنسي"، التزاماً بالإجراءات الاحترازية، لتحقيق دورة انتقالية ناجحة، بانتظار تنظيم الدورة المقبلة ببرنامج أكثر طموحاً، وصدى احتفالي أكبر بالذكرى الـ20 لتأسيس المهرجان، التي لا يفتأ محمد بيوض، المدير الفني للمهرجان، يذكر أنّها ستكون فرصة للاحتفاء بفيلم التحريك المغربي القصير، ودراسة التجربة المغربية بنواقصها، وهوامش تحسّنها، وسبل تطويرها نحو الأفضل.
على خطى دولاكروا
رسومات معرض "على خطى دولاكروا" أول ما يستقبل الضيوف في مدخل "المعهد الفرنسي"، الشريك الرئيسي في تنظيم المهرجان مع "مؤسّسة عائشة"، في إطار تعاون نموذجي بين القطاعين العام والخاص، ينبغي أنْ يُتّخذ مثالاً لإنجاح التظاهرات، مغربياً وعربياً. معرضٌ يندرج في احتفالات السنة الخامسة للقصّة المُصوَّرة، حرصت ليليان دوسانتوس، مديرة المعهد، على أنْ يخرج إلى لقاء أبناء مكناس في فضاءات المدينة، بلوحات أنجزها فنانون استفادوا من إقامة متنقّلة بين مدن مغربية عدّة، التقطوا بفضلها صُوَراً من العيش اليومي، ورسومات عن الهندسة والمعمار وفنّ العيش، تشكّل نوعاً من امتدادٍ لأنشطة الـ"فيكام" في شرايين حاضرة المولى إسماعيل.
رغم صعوبة التعوّد على منظر المقاعد، التي يُمنع الجلوس عليها بواسطة شريط لاصق، حقّقت عروض مسرح "المعهد الفرنسي" نوعاً من عودة الوصل بين الجمهور والمُشاهدة الجماعية، مع التزام شروط التباعد ووضع الأقنعة. اكتشف مرتادو المهرجان أكثر من 40 فيلماً في المسابقة الرسمية لفيلم التحريك القصير، اختارتها لجنة مستقلّة، شاهدت نحو 220 فيلماً، في أكثر من نوع وثيمة وتقنيات اشتغال (بُعدان، ثلاثية الأبعاد، التشكيلية بمختلف أنواعها، الدمى والأوراق المقصوصة، تقنيات مختلطة)، والجهات المنتجة (أفلام المدارس وغيرها). توزّعت عروض المسابقة على 4 برامج ليلية (9 مساءً)، قبل أنْ تمنح لجنة التحكيم ـ برئاسة المؤلّف الموسيقي برونو كولي، وعضوية الممثل المغربي محمد زهير والمنتج الفرنسي جان ـ بول كومان ـ الجائزة الكبرى لـ"ذكريات ذكريات"، لباستيان دوبوا، عن ذكريات جدّه، المجنّد السابق في حرب الجزائر. في الفيلم، لحظات سرد ذاتي من خلال رسوم خام، تجريدية إلى حدٍّ ما، تعكس صعوبة خلق فيلمٍ انطلاقاً من الذاكرة المكبوتة لجدّه، ولقطات ذات طابع كارتونيّ مجنون، تُطلق العنان لتخيّل فظاعات وجرائم، يُرجَّح أنْ تكون كتيبة الجدّ ارتكبتها في الحرب، ما يذكّر برائعة آري فولمان، "فالس مع بشير" (2008).
عروض الأفلام الطويلة توزّعت على فقرتين: "الشاشة الكبرى"، الموجّهة إلى الكبار واليافعين، في قاعة المسرح، عرضت "الرحلة الاستثنائية لمارونا" لأنكا داميان (بحضور المنتج رون دايَنز)، و"فريتزي" لرالف كوكولا وماتياس برون، و"جوزيب" لأوريل (بحضور منتجه جان ـ بول كومان)، وغيرها. هناك أيضاً "تحت النجوم"، المخصّصة لجمهور الصغار، من دون أنْ تكون ممنوعة عن ذوي "الأرواح الطفولية"، عُرضت أفلامها على شاشة متنقّلة في حديقة "المعهد الفرنسي"، كـ"سام سام" لتونغوي دي كيرميل (بحضور كاتب السيناريو جان رونيو)، و"الطفل الذي أراد أنْ يكون دبّاً" ليانيك آستروب (بحضور مؤلّف الموسيقى برونو كولي)، وغيرهما.
شاي بالنعناع
أول ما يستهل به البرنامج، بعد الظهيرة، لقاءات مهنية في حديقة المعهد، بإدارة أليكسي هونو، الصحافي المتخصّص في سينما التحريك، تُناقش فيها قضايا الإبداع في سينما التحريك، في جو حميمي، مع كؤوسٍ من الشاي بالنعناع. باكورة اللقاءات تمحورت حول أهمية إقامة خاصّة بالكتابة، لتطوير سيناريو الفيلم، بحضور مخرجين شباب مقيمين في المغرب وفرنسا، تؤطّرهم دلفين نيكوليني، منتجة ومؤطّرة بالإقامة الفرنكوفونية لكتابة أفلام التحريك. النقاش فرصة لاكتشاف مشاريع يشتغل عليها المقيمون، والتعرّف على طرق المؤطّرين في الاشتغال معهم على توضيح نواياهم، واستكشاف الوسائل الكفيلة بجعل سردهم أكثر قابلية لاستيعاب المُشاهد، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير، وأكثر حظوةً في جلب تمويلات مكمّلة. لعلّ أبرز دروس هذا اللقاء أنّ مشاركين عديدين انطلقوا من قصص ذاتية تخصّ علاقاتهم بأفراد من عائلاتهم، يحاولون تناولها بمنظار التحريك، ليجعلوا من اقتسامها على الشاشة وسيلة للشفاء من ترسّباتها، أو سعياً إلى إدراكٍ أعمق لمعانيها.
"ماهية إقامات تطوير المشاريع"، أو "كيفية تطوير الاشتغال على المشاريع في مرحلة موالية للكتابة"، موضوع الجلسة الثانية، بحضور مخرجات ومخرجين شباب ذوي خبرة أكبر، منهم المغربية صوفيا الخياري والجزائرية سامية دزاير، المقيمتان في فرنسا. اقتسم المشاركون أفكاراً مُثريةً عن مسار تطوّر مشاريعهم، بالموازاة مع التقدّم في الاشتغال على الجانب البصري، ومخطوطات الشخصيات والخلفيات، وقصاصات الـ"ستوري بورد"، ما يشكل خصوصية بارزة للتحريك، مقارنة بأفلام التصوير المباشر للواقع، تتجلّى في أنّ التصور الفني (صوتاً وصورة) يشكّل في حدّ ذاته مناسبة لإعادة صوغ تصوّر المخرج عن القصّة والحبكة والشخصيات، وحتّى طرح الفيلم نفسه. حوار مستمر وغني بين النوايا ونتائج الاشتغال اليدوي، أو المعلوماتيّ، يدوم إلى غاية أخرى، تسبق خروج الفيلم إلى العلن.
اللقاء الموالي جمع اختصاصيي إنتاج، تناولوا وسائل خلق أفلام التحريك وإنتاجها وبثّها (توزيع واستغلال)، أوّلهم رون دايَنز، مؤسّس شركة "ساكربلوه"، التي أنتجت أفلاماً فازت بجوائز مهمّة، كـ"السعفة الذهبية" (كانّ) و"الأسد الذهبي" (فينيسيا) و"الدبّ الفضّي" (برلين) و"كريستال" (آنسي) و"سيزار" (المُعادل الفرنسي لـ"أوسكار" هوليوود) مرّتين، بالإضافة إلى جوائز وترشيحات أخرى. تحدّث دايَنز عن جوانب من طرق اشتغاله، مُركّزاً على أنّ الحدس والرغبة الصادقة في مرافقة مشاريع متفرّدة، يودّ أولاً أنْ ترى النور، تلبيةً لذوقه كمُشاهد، يقودان اختياراته، لافتاً الانتباه إلى أنّ هاجس المجازفة وعدم الركون إلى تكرار وصفات نجاحاته السابقة مؤشّران أساسيان في بوصلته. أما علي الركيك، المنتج المغربي ومدير استوديوهات "آرت كوستيك"، فبنى كلمته على تقاسم ظروف وآليات اشتغال تجربة شركته، الرائدة في إنتاج أفلام مغربية قصيرة، تسعى إلى الرهان الفني، انطلاقاً من خبرتها في مجال فيديوهات تشرح مواضيع سياسية واجتماعية من صلب النقاش الراهن على وسائل التواصل.
تستعدّ الشركة لخوض غمار تحدٍّ، يتمثّل في إنتاج أولى سلسلتي تحريك مغربيتين، بعد فوزها بطلبي عروض تقدّمت بهما القناتان الأولى والثانية (دوزام). تحدٍّ، أجمعت معظم التدخّلات على أهميته بالنسبة إلى مستقبل سينما التحريك في المغرب، رغم آجال التسليم القصيرة (8 أشهر)، وإكراه نقص الخبرات الذي دفع الركيك وشريكه مصطفى الفكاك (الملقب بـ"سوينغا")، الفاعل الاجتماعي ذو التأثير الكبير الذي سيتكفّل بإخراج السلسلتين، إلى خلق نواة مدرسة تكوين في اختصاصات التحريك، بغية تطعيم فريق إنجاز السلسلة بالكفاءات اللازمة.
اللقاء الرابع والأخير خُصّص لنقاشٍ عن "تطوّر الكتابة لسينما التحريك في الـ20 سنة الأخيرة"، بحضور المخرجَين فابريس فوكيه (فرنسا) وأوغستو زانوفيلي (البرازيل)، والسيناريت جان رونيو (فرنسا). التقت معظم المداخلات على أنّ مجال كتابة مسلسلات التحريك للتلفزيون تحكمه اعتبارات عدّة، تحدُّ من حرية الكاتب والمخرج، في مرحلة موالية: الجمهور المُستهدَف، وسياسات البرمجة الخاصة بكل قناة، إلخ. خصوصاً في فرنسا، بينما استطاعت وسائل البثّ الجديدة، كالمنصّات وفضاءات الـ"ستريمينغ"، في أميركا مثلاً، خلق بيئات أكثر ملاءمة للإبداع والتجريب، ما أدّى إلى ظهور مسلسلات خلاقة، حقّقت انتشاراً مُبهراً، كـ"ريك ومورتي". محدودية التجربة الفرنسية، على صعيد الانتشار العالمي، تسائل مقاربة الاستهداف والتوجّه، مقارنةً بالمسلسلات اليايانية، التي حقّقت نجاحاً مطلقاً في استهداف جمهور المراهقين والبالغين، بفضل اعتمادها على اقتباس الـ"مونغا".
دروس سينما التحريك
تمّ تخصيص فقرة "بطاقة بيضاء" للمنتج رون دايَنز، الذي قدّم فيها عرضاً لأفلام تحريكٍ قصيرة، أنتجها في 20 عاماً من عمر شركته "ساكربلوه"، منها "أخي الصغير من القمر" (فريدريك فيليبير، 2007)، الذي يضع طرحه في واجهة رهانه الجمالي، من دون أنْ ينزع ذلك عنه القدرة على التأثير، من خلال أخت تحكي بشكل مؤثّر عن يوميات أخيها المصاب بالتوحّد، وتصرّفاته التي تبدو غريبة ومزعجة للغرباء، لكنّها مألوفة ومحبّبة لها.
أسلوب التشكيل، بصباغة الماء المحيل إلى التجريدية الإيحائية، في "السقوط" (2018) لبوريس لابّي (جائزة "أسبوع النقّاد" لأفضل فيلم قصير)، يحاكي رحلة الإنسان على الأرض منذ الخلق، مروراً بالتلاقح والازدهار، إلى التقهقر نحو المآسي والحروب. الإيحائية الرمزية لـ"الرجل الجالس على الكرسي" (2014) ليونغ داهي ("كريستال" أفضل فيلم قصير في "آنسي")، عن متاهة الوعي بالذات، والسعي إلى التحرّر من الامتثال ونظرة الآخرين. فيلم أسرّ رون دايَنز أنّه لا يزال غير قادر على تلخيص قصّته في جملٍ قليلة، من دون أنْ يمنعه هذا من مرافقته والمرافعة عنه، لأنّه "أحسّ بصدقه واستحقاقه لأنْ يرى النور"، مُركّزاً على أنّ دوره يتمثل في حلقة الوصل والتقريب بين رؤية المخرج، التي يلفّها غالباً نوعٌ من الضبابية في البداية، وانتظارات المُشاهد كما يحدسها انطلاقاً من تجربته، من دون أنْ تكون له أحكام مسبقة، أو وصفات جاهزة لشكل المشاريع التي ينبغي أنْ يدعمها.
أما برونو كولي، فقدّم ـ بتنشيط من جان ـ بول كومان ـ "درساً سينمائياً" غنياً عن تجربته الاستثنائية كمؤلّف موسيقى للأفلام، في نحو 40 عاماً، تعامل فيها مع مخرجين كبار، أمثال بونوا جاكو وآلان كورنو وبرتران تافرنييه. قال إنّه سعى دائماً إلى عدم اقتحام العالم التخييلي للمخرجين، بل إلى الانسجام معه، محاولاً خلق موسيقى تمتزج مع الصُوَر بتوليفة جديدة، تعزّز قدرتها على خلق أحاسيس لدى المُشاهد، تتجاوز تكرار منطق المشهد، أو المبالغة في التسطير على حساسيته الأصلية. شدّد كولي على أهمية تجربته في تأليف موسيقى أفلام التحريك، رغم قلّتها في فيلموغرافيته، وبعضها مهمّ، كـ"سرّ كيلز" (2009) لميرا تومي وتوم مور، واشتغل مجدّدا مع هذا الأخير على "ووفواكرز" (2020)، و"كورالين" (2009) لهنري سيليك. أضاف أنّ الحساسية الموسيقية لسيليك أدّت إلى تكوّن كيميائية خلق خاصة بينهما، قادت إلى اشتغالهما على فيلم جديد بعنوان "ويندل آند وايلد"، يُتوقّع إطلاق عروضه عام 2022.
اللحظة الأبرز بين فقرات الدورة تكمن في الـ"ماستركلاس"، الذي قدّمه جيريمي كلابان، عن الخيط الناظم بين أفلامه القصيرة، وتفاصيل تصوّره الفنّي لرائعته "فقدتُ جسدي" (2019). لحظة اقتسام مؤثّرة في سخائها، وشرح المخرج المستفيض لمراحل تطوّر عمله، منذ انبثاق فكرة اقتباس رواية "يد سعيدة" لغيوم لوران، إلى لحظة إطلاق الفيلم، بما في ذلك خطاطة مُفصّلة عن السرد، ورسوم بيانية دقيقة لمراحل تكوّن الجانب البصري، الذي مزج تقنيات ثنائية الأبعاد بأخرى ثلاثية الأبعاد، بحثاً عن الصدقية، من دون التخلّي عن الشعور الخام المميّز لشخصيات الفيلم، وديكور الضاحية الباريسية، التي يعرفها كلابان جيداً بحكم ترعرعه فيها.
شجاعة عدم الركون إلى السطحي والسهل، ونجاعة الذهاب إلى ما يقبع خلف الاختيارات التقنية والجمالية، والتفاصيل التي تصنع الفرق، تعكس كرم روح كلابان أولاً، وتطلّب البرمجة واحترافيتها الملموسة في مجريات الدورة الـ19 للـ"فيكام".