شهدت شبكة "فوكس نيوز" اليمينية الأميركية، المملوكة لإمبراطور الإعلام الأميركي الأسترالي روبرت مردوخ، انفصالاً أكبر مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الخاسر في الانتخابات الأخيرة.
فالعلاقة الوطيدة بين الشبكة والرئيس بدأت تتهاوى تزامناً مع الانتخابات، وهو ما ظهر عبر تصريحات ترامب نفسه، إذ قال إنّها "تغيّرت كثيراً" بين عامي 2016 و2020. يعود السبب إلى قرارها المفاجئ بعدم دعم كل ما يقوله ترامب، بل إيضاح المعلومات الصحيحة من تلك المضلّلة، بالإضافة إلى إعلانها فوز المنافس الديمقراطي جو بايدن في ولاية أريزونا.
لكنّ فصول ذلك المسلسل الذي استمرّ لأربع سنوات لم تنتهِ هناك. إذ بدأت العلاقة تنهار أخيراً، وهو ما اتّضح عبر التناقض بين البرامج في القناة، وصارت الرسالة تتّضح يومياً أكثر فأكثر: الشبكة أكبر من ترامب.
جذور العلاقة
كان ترامب أحد مشاهدي "فوكس نيوز" قبل أن يصبح أحد نجومها. تعلم الكثير عن قاعدة الحزب الجمهوري من خلال مشاهدة الشبكة والبرنامج الصباحي Fox & Friends، بينما كان لا يزال يلعب دور البطولة في برنامج Celebrity Apprentice على قناة NBC.
استمر في الاتصال بالشبكة والظهور على شاشتها بانتظام أثناء ترشحه عن الحزب الجمهوري في عامي 2015 و2016، حتى عندما هاجم مذيعة "فوكس"، ميغين كيلي، وانتقد بعض المعلقين في الشبكة. منذ ذلك الحين، اتبع ترامب نهج العصا والجزرة نفسه: مدَحَ أنصاره مِن "فوكس"، وكافأهم بمقابلات وتسجيلات على "تويتر" وزيارات إلى البيت الأبيض، والشكوى من معارضيها.
اعتاد مردوخ أن ينتقد صراحة سلوك ترامب. كتب قطب الإعلام الشهير على "تويتر" في صيف 2015: "متى سيتوقف دونالد ترامب عن إحراج أصدقائه والبلد بأسره؟". لكن مردوخ عقد السلام مع ترامب. لم يكن يعتقد أن ترامب سيهزم هيلاري كلينتون في الانتخابات العامة، لكن عندما فعل ترامب، وصل مردوخ إلى ما وصفه أحد أصدقاء العائلة في ما بعد بـ"الوفاق". وكان الزواج الإعلامي مرئياً للجميع على التلفزيون.
الانفصال بدأ بالتناقض
حاولت الشبكة اليمينية تغطية الانتخابات التي فاز فيها بايدن وينكر نتائجها ترامب. خلق ذلك فجوةً بين البرامج الإخبارية النهارية وبرامج الرأي المسائية التي تؤيد ترامب بشدّة، ويعجب الرئيس بمقدّميها.
أفاد كل المراسلين الموجودين، على مدار النهار، بأن بايدن لديه تقدم لا يمكن التغلب عليه، وذكّروا المشاهدين بأنه لا يوجد دليل على أن "أصواتاً غير قانونية" تم الإدلاء بها أو عدها بأعداد كبيرة بما يكفي لإلغاء النتيجة. لكن عندما تغرب الشمس، تحظى أعنف ادعاءات ترامب حول التزوير بالمصداقية من قبل المذيعين الصاخبين، تاكر كارلسون وشون هانيتي ولورا إنغراهام، الذين يقدّمون مجموعة من برامج الرأي في أوقات الذروة للشبكة، بالإضافة إلى فريق برنامج Fox and Friends الذي يحابي ترامب بدوره.
بحسب موقع "إنترسبت"، يمكن أن يؤدي الاختلاف الحاد في كيفية وصف "فوكس نيوز" لنتائج الانتخابات من الصباح إلى المساء في إحداث شعور بالصدمة لدى المشاهدين الذين يتابعون القناة طوال اليوم، والذين يشاهدونها وهي تنتقل من البرامج الإخبارية النهارية إلى برامج الرأي المسائية.
كان ذلك واضحاً يوم الإثنين الماضي، عندما أصر المذيع نيل كافوتو على قطع بث مؤتمر صحافي مباشر زعمت فيه المتحدثة باسم حملة ترامب التي تعمل في منصب المتحدثة باسم البيت الأبيض، كايلي ماكناني، حدوث تزوير جماعي للناخبين. وقال المذيع: "توقف، توقف، توقف... أعتقد أنه علينا أن نكون واضحين للغاية. إنها تتهم الطرف الآخر بالترحيب بالاحتيال والترحيب بالتصويت غير القانوني. ما لم يكن لديها المزيد من التفاصيل لدعم ذلك لا يمكنني الاستمرار في عرض هذا لكم". وكان ذلك توجّه القنوات الأميركيّة الأخرى، كـ"سي بي إس" و"إم إس إن بي سي" و"سي إن إن" من التي اتّبعت خطاً واضحاً منذ ما قبل الانتخابات وخلالها وبعدها يفنّد ادعاءات ترامب ويدحضها تماماً، في موازاة قيام "تويتر" و"فيسبوك" بالإشارة إلى أنّ تصريحات ترامب حول التزوير وفوزه في الانتخابات مضلّلة.
بعد ساعات قليلة، أخمدت مارثا ماككالوم أيضاً شائعات حدوث مخالفات في التصويت في مقابلة مع تشارلي ليدوف، وهو مراسل سابق في "نيويورك تايمز" كان قد تطوع في عمليات الاقتراع في ميشيغان الأسبوع الماضي. بعد دقائق فقط، أفسحت ماككالوم الطريق لتاكر كارلسون الذي بدأ عرض برنامجه بمونولوغ طويل مكرّس لفكرة أنه قد يكون هناك تزوير في الانتخابات. انتقل كارلسون بعد ذلك إلى مناقشة مطولة حول احتمال حدوث احتيال كبير في عملية عد الأصوات في ميشيغان. لم يشر إلى مقابلة ماككالوم مع ليدوف، التي بدت وكأنها تتعارض مع واحد على الأقل من هذه الادعاءات. كان ذلك اليوم مثالاً فقط على التناقض الذي تعيشه الشبكة اليمينية في هذه الفترة من تاريخ أميركا والإعلام الأميركي.
الشبكة أكبر
لا يقولها قادة "فوكس نيوز" بصوت عالٍ، لكنهم يعتقدون أن إمبراطوريتهم الإعلامية أكبر من الرئيس ترامب. تشرح "سي أن أن" أن السبب يكمن أساساً في كون موظفي "فوكس" واثقون من أن سنوات الشبكة ستكون مزدهرة خلال ولاية بايدن، وهم غير خائفين من شبكة خاصّة لترامب يُحكى عن التحضير لإطلاقها. لكن بعض المراقبين يعتقدون أنه ينبغي عليها القلق. فمن المحتمل أن يضر الرئيس المنتهية ولايته بعلامة "فوكس" التجارية ويقضي على المشاهدين المحبطين إذا أطلق شركة إعلامية خاصة به. من المحتمل أن تكون الخريطة الإعلامية اليمينية، التي كانت تسيطر عليها "فوكس" لفترة طويلة، على وشك أن تصبح مقسمة.
وفي الأيام التي أعقبت إعلان "فوكس" والشبكات الكبرى الأخرى انتخاب الرئيس جو بايدن، كان ترامب يؤجج الغضب في "فوكس" ويروج لشبكات اليمين الأصغر حجماً، التي غالبًا ما تكون أكثر تآمرا، مثل Newsmax وOne America News، واللتان بدأت هجرة المشاهدين المحافظين واليمينيين إليهما بالفعل، بعد اعتبار قسم من مؤيدي ترامب أنّ "فوكس تغدره" في تغطياتها.
يبحث أنصار ترامب عن بدائل لشبكة "فوكس نيوز" بعد إعلانها بايدن فائزاً. Newsmax وOne America News، اللتان تزعمان كذباً أن ترامب فاز في انتخابات 2020، هما من أكبر المستفيدين من غضب ترامب وأنصاره، إذ ارتفعت تقييمات هذه القنوات في الأيام الأخيرة. وللمساعدة في تعزيز تقييمات منافسي "فوكس نيوز"، يطلب ترامب من متابعيه على "تويتر" تجربة Newsmax و One America News، كما ظهر ذلك في تغريداته.
في مرة أخرى، كان ترامب يشاهد "فوكس" أيضاً، وغرد اقتباساتٍ من معلقين مؤيدين، وطلب المشورة من "فوكس" من المذيع شون هانيتي. هنا، تشبّه "سي أن أن" علاقة ترامب بـ"فوكس" الحالية بالطلاق، قائلةً: "تزوج ترامب ورئيس (فوكس) روبرت مردوخ لمدة خمس سنوات. يهدد ترامب بالانفصال، لكنّ فوكس مرّت بالعديد من هذه العلاقات الصعبة المماثلة من قبل". والسؤال الآن هو: ما الذي قد يفعله ترامب بعد تركه منصبه؟ يبدو أن خدمة بثّ تحمل علامة ترامب التجارية أكثر ترجيحاً من شبكة كايبل. لكن كل شيء ممكن تقريباً: برنامج إذاعي يقدّمه ترامب، أو توسيع البث الشبكي الحالي لحملة ترامب، أو صفقة ترخيص مع شركة مثل "نيوزماكس". لكن ماذا عن برنامج من طينة "دونالد ترامب تونايت" الحواري على قناة "فوكس"؟ هل هذا غير وارد؟ الجواب لا، على الأقل ليس بالكامل. هناك دائماً قِطَع يمكن تحريكها. على سبيل المثال، يمكن أن يتقاعد هانيتي، المذيع في "فوكس"، لما يقرب من 25 عاماً حتى الآن، وترك ترامب يحل محله.
من يمتلك القوة؟
نقل كتاب "خدعة: دونالد ترامب، وفوكس نيوز، والتشويه الخطير للحقيقة" عن منتج سابق لبرنامج "فوكس آند فريندز" قوله إن الغرباء أساؤوا فهم العلاقة بين الطرفين. إذ قال المنتج السابق: "يعتقد الناس أنه يتصل ببرنامج "فوكس آند فريندز" ويخبرنا بما يجب أن نقوله. لا، بل على العكس"، "نقول له ماذا يقول". يدعم هذا الرأي ما كان ينشره ترامب على "تويتر"، والذي يظهر أنه غالباً ما يبدأ يومه بمشاهدة البرنامج ويكرّر ما قالوه على التلفزيون.
فقد كانت علاقة ترامب و"فوكس نيوز" موضوعاً رئيسياً خلال ولايته. وظّف أشخاصاً من شركة "فوكس"، وفصل أشخاصاً بسبب "فوكس"، وأجرى معظم مقابلاته التلفزيونية الوطنية مع "فوكس"، فيما حجب الظهور عن قنواتٍ أخرى. ردّد ترامب ما قالته "فوكس نيوز"، وردّدت هي ما قاله أيضاً. كانت الطروحات والنقاشات نفسها موجودةً ويعاد تدويرها بين حساب ترامب على "تويتر" والشاشة الإخباريّة. في بعض الأحيان كان من الصعب معرفة أين ينتهي ترامب وتبدأ "فوكس". لكن حتى مع هذه العلاقة الوثيقة، كان الرئيس ينشر تغريدات لئيمة كلما لم يعجبه شيء ما على الشبكة. عادةً ما يتجاهل المسؤولون التنفيذيون في "فوكس" شكاواه، فقد شعروا أنّ السلطة لديهم وليس لدى الرئيس.
تؤكد شبكة "سي أن أن" أن لدى "فوكس" موقع شبه احتكار في التلفزيون اليميني. جمهور الشبكة مخلص بشكل غير عادي، كما ظهر في أواخر عام 2016 وأوائل عام 2017 عندما غادر ثلاثة من أكبر نجوم "فوكس" في فترة تسعة أشهر، وبقيت المشاهدات على حالها.
قد يعتقد ترامب أن "فوكس" تحتاج إلى قوته ونجوميته، لكن الشبكة كانت الرقم واحد قبل فترة طويلة من أن يصبح ترامب سياسياً، وهي لا تزال القناة الأكثر مشاهدة أميركياً حتى اليوم، فيما تتوقّع التحليلات الصحافية أن تبقى الشبكة كذلك بعد رحيل ترامب أيضاً.