في لحظة تكاتفت فيها علينا أوبئة عدّة، ولدت منصة جديدة للتواصل الاجتماعي. واللافت أن كثيرًا من ردود الفعل وانطباعات التجارب الأولى للمستخدمين العرب ذهبت إلى مدح هذا "الجديد" عبر تبيان صلته بما هو قديم. نحن، في تطبيق "كلوب هاوس"، أمام جديد يذكرنا بالقديم ويسمح لنا بأن نُعيد إحياءه، وإحياء ما كنّا ونحن نعيشه، من خلال أدوات راهنة. يقوم التطبيق على فكرة بسيطة، وإن كانت رحلة الحصول على حساب فعّال ما زالت تستلزم تلقي "دعوة" من مستخدم آخر بهدف "هندسة" جمهور مستخدمي التطبيق كما يشير صانعوه، وإعطاء لحظة الدخول الأولى إليه مذاقًا افتراضيًا خاصًا. يمنح التطبيق مستخدميه الفاعلين القدرة على "دعوة" مستخدميْن آخريْن، مع منح الداعي ميزة وجود اسمه على "بروفايل" المدعو، ما يؤسس للقدرة على تتبع عملية توالد قاعدة المستخدمين وصولاً إلى عدد من "الآباء المؤسسين" الذين انطلقت من عندهم رحلة "الدعوة إلى كلوب هاوس".
يتيح التطبيق القدرة على إنشاء "الغرف" (كتطبيقات أخرى بينها "هاوس بارتي") لكنه يتيح التجمّع حول المواضيع لا حول الشخوص، في نقاشات بالصوت دون الكتابة أو الصورة. يُسلب منك في "بيت النادي" خيار الكتابة وتُحيَّد أصابعك، كما تُترك عيناك على هواها لترسم صورًا يستفزّها الكلام الدائر في الغرف. لا يعني ذلك غياب الحضور في "كلوب هاوس". أنت، إن أردت، مرئيٌ وملموس. كلُّ ذلك يتحقق عبر وسط وحيد هو الصّوت. يصير الأصدقاء، وأنصاف الأصدقاء، والغرباء، جَمعًا واحدًا في لحظة مرتجلة تقفز عن طقوس التعارف التقليدي وما يرافقها عادةً من توجّس ومفاوضات تتعلق برسم حدود التأثير وتبادل الاعتراف.
يتيح "كلوب هاوس" التجمع حول المواضيع لا الشخوص
لكلّ غرفة في "كلوب هاوس" طبقات ثلاث. الأولى للمتحدثين، ويكون من بينهم صانع الغرفة أو صانعوها، وهم دون غيرهم يملكون أدوات إدارة الحوار. أمّا الطبقة الوسيطة فتضمّ مستمعين ممّن يُبرزهم التطبيق لوجود متابعات مشتركة بينهم وبين المتحدثين. والطبقة الثالثة هي من المستمعين الذين دخلوا الغرفة لأنّ خورازمية التطبيق اقترحتها عليهم، أو شدّهم موضوعها.
للوجود في كلّ طبقة من تلك الطبقات الثلاث مفاعيل نفسية وعاطفية؛ فالمستمع ليس مطالبًا ببذل أي مجهود، حيث يمكنه الاستمتاع بلذّة الإصغاء من أريحيّة المقاعد الخلفيّة وعتمتها الآمنة. أمّا المتحدثون، ولاسيما مُديرو الغرفة، فلهم القدرة على منح الحقّ في الكلام وسلبه إن أرادوا. ويفترض التطبيق أنّ لباقة المتحدثين والالتزام بالآداب الافتراضية العامة سيضمنان مرونة الانتقال بين هذه الطبقات بشكل سلس.
يَجبر التطبيق كسورًا اجتماعيّة، ويجمع بين من يندر الجمع بينهم نظرًا لاختلاف المواقف السياسية وأماكن العمل والذائقة الافتراضيّة. يتحقق ذلك عبر عدّة عوامل من بينها تحييد العبء الاجتماعيّ والنفسي المرتبط بالاتصال بأحدهم بشكل مباشر. لا أحد يتصل بأحد على "كلوب هاوس"، فالدخول والخروج من الغرف يتّسم بالسلاسة والخفّة، كما ويعاد بناء الجدران الزجاجيّة لكل غرفة بشكل مستمر، مع الحفاظ على الطابع الآني المباشر للنقاش والمداخلات، دون تسجيل، والذي يقود إلى مستويات مفاجئة من الصراحة.
يجمع التطبيق بين مجموعات متناثرة، وربما متنافرة، من مغتربي الربيع العربي ومن دفعوا من صحتهم الجسدية والنفسية أثمانًا باهظة لمآلاته الدمويّة، بالإضافة إلى جمعه دون تكلّف صحافيين ومدونين وناشطين عاملين في مؤسسات مختلفة، وأفراداً يواجهون تحديات مشتركة مثل العلاقة مع اللغة الأم والوطن والعنصريّة وغير ذلك. تكثر الأسئلة حول مآلات هذا التطبيق، نموذجه في جني الأرباح، وفيما إذا كان سيستمر بهذا الزخم بعد انتهاء الإغلاقات المرتبطة بجائحة كورونا. كما ويخضع الطابع العام لـ"كلوب هاوس" لعمليات نحت وتشكيل بين من يريد شدَّ التطبيق إلى مساحات "نخبوية" ليكون منصة للصحافيين والكتّاب، ومن يريده مقهى افتراضيًا ينزع فيه المرء عن نفسه قلق الظهور في أبهى حلّة مهنيّة أو معرفيّة.
يجمع التطبيق بين مجموعات متناثرة وربما متنافرة
وأيًا يكن الفائز في السباق على تحديد "نكهة" هذا التطبيق، فإنّ الهجرة الجارية إليه ستجلب معها تراتبيات الأهميّة والنفوذ الموجودة على منصات أخرى مثل "فيسبوك" و"تويتر". فأصحاب الصوت الأعلى على منصات غير "كلوب هاوس" سيكونون الأوفر حظًا عليه، مع إمكانية حدوث اختراقات لتجارب فرديّة يستفزّ التطبيق خلالها طاقات إبداعية كانت موجودة لدى البعض دون وعي بها.
تبدو اللحظة الراهنة للتطبيق شديدة الكثافة والارتباط بالتجربة الإنسانية التي نعيشها معًا، ألا وهي جائحة كورونا. يلمع "كلوب هاوس" فجأة في آخر نفق التسليع والاغتراب الذي انتهت إليه فضاءات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعيّ بعد أن ابتعدت كثيرًا عن سيرتها الأولى في "التواصل" و"الاجتماع". نشعر أن بين يدينا مساحة مفرَّغة مرحليًا من الإعلانات والادعاءات والذباب الإلكترونيّ والتفاعل القائم على تقديم صور مكذوبة عن عالمنا، وعن تفاعلنا معه.
يعتقد بول دافيسون، وهو أحد مؤسَسي التطبيق إلى جانب روهان سيث، إنّ "كلوب هاوس" سيستمر بعد الجائحة، وأنّه سيكون امتدادًا افتراضيًا لرغبة الإنسان الأصيلة في التواصل. ربما يصيب دافيسون في اعتقاده، وربما يتراجع التطبيق حتى يخفت نجمه في سماء منصات التواصل لينضمّ إلى لائحة طويلة لما نشتاق إليه إلكترونياً ونترحّم على أيّامه. لكنّ الإمساك بالتجربة التي يمثلها دخول هذا التطبيق اليوم يدفع باتجاه التفكير في طبيعة الاستنتاجات المشتركة التي توصل إليها عدد كبير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، لناحية تحوّل كثير من تلك الوسائل إلى مساحات موحشة ومفرَّغة من المعنى الإنساني.
لن تدوم "براءة" تطبيق "كلوب هاوس" ولن يكون "نقاؤه" عصيًا على الدنس. سينمو، وسيغيّر جلده. غير أنّه منح كثيرين ومضة باهرة من التواصل الذي نجح في القفز عن الأسوار المفخخة للوحدة المعاصرة التي تعيد إنتاج نفسها، وتقاوم أيّ محاولة لإلغائها. لقد سمح لنا "كلوب هاوس" في أن نكون وحيدين معًا، وأن نتذكّر أن السعي للتفرّد لا يلغي حاجتنا لنكون جزءًا من مجموع، وأنّ "حاجتنا" تلك ليست عيبًا أو فشلاً في إدارة حياة ناجحة.