بثت شبكة "نتفليكس" أخيراً المسلسل الألماني "كود المليار دولار" The Billion Dollar Code من أربع حلقات، والذي، للوهلة الأولى، قد لا يثير الاهتمام. لكن، بعد التورط به، نكتشف أننا أمام مشكلة لا يمكن تجاهلها؛ مفادها باختصار أن شركة "غوغل" سرقت فكرة وكود شابين ألمانيين، من دون أي تعويض لهما، والفكرة هي "غوغل إيرث"، البرنامج الشهير الذي يتيح لنا أن نشاهد العالم من شاشاتنا، وكان يحمل، بنسخته الألمانية الأصلية اسم Terra Vision، وكان أشبه بعمل فني تفاعلي، أكثر منه تطبيقاً حاسوبياً.
المسلسل يستند إلى قصة حقيقية، ودعوة قضائية بقيت مستمرة حتى عام 2017؛ فشركة "غوغل"، عبر أحد مديريها التنفيذيين (براين أندرسون) حصلت على "الكود" الذي صممه يوري مولر وكارستين شولر، قرصان وفنان أسسا شركة "أرت+ كوم" الألمانية، في محاولة لخلق نسخة ألمانية من "وادي السيليكون". هذا الكود كان بداية عملاً فنياً هدفه تمكين المستخدم من التحليق كـ"سوبرمان" فوق الكرة الأرضية، والاقتراب من أي مكان يريده، من دون أي حدود أو حواجز فيزيائية أو سياسية.
يتحرك المسلسل بين زمنين، الأول هو التسعينيات؛ إذ نتعرف إلى كيفية تكوين الفكرة ونشأتها، وكيف ظهرت إلى العالم. أما الزمن الثاني، فهو عام 2014، حين التقى الصديقان مرة أخرى لاستعادة حقهما المسروق، ورفعا دعوى على "غوغل" للحصول على حقوقهما الفكرية والماليّة. لكن المثير أن المسلسل يستخدم أسماء وهمية للشخصيات الحقيقية من أجل تفادي أي صراعات مع "غوغل". ونقرأ لاحقاً أن الشركة العملاقة تمكنت من إبطال مفعول براءة الاختراع التي يمتلكها الشابان، ومن الحفاظ على ملكية الكود.
المرعب في المسلسل هو ما تقوله المحامية التي تقاضي "غوغل" إن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها عملاق "سيليكون فالي"، عبر خدعة قانونية، بالاستحواذ على أفكار الآخرين وتحويلها إلى تطبيقات تقدر أرباحها بالملايين، في حين أن أصحابها الأصليين يتلاشون في الخفاء؛ فهذه الدعوى، حسب المسلسل، محاولة للوقوف إلى جانب المستضعفين الذين تنهب حقوقهم من دون أي تعويض.
المثير للاهتمام هو التناقض الشديد في النظر إلى التكنولوجيا، فالشركة الألمانية كانت تريد إنجاز عمل فني، تراهن على الطيران والمخيلة، ومتعة الانتقال من مكان إلى آخر عبر الشاشة، في حين أن "غوغل"، وعلى الرغم من ادعائها بأنها تقدم خدمات "غوغل إيرث" مجاناً، إلا أنها تكسب المليارات من ورائه، وتبيع المعلومات والعناوين إلى شتى أنواع الشركات. وهنا، يمكن النظر إلى بداية تكوين "رأسمال المراقبة"، وتحويل اللعب والمعلومات التي نقدمها طوعاً إلى وسيلة للتتبع والسيطرة، والأهم، للربح.
يكشف لنا المسلسل أيضاً عن بدايات ظهور الإنترنت، لتعترينا "نوستالجيا" من نوع ما ونحن نشاهد كيف كانت التكنولوجيا "بدائية" نوعاً ما، وكيف سخر كثيرون من "الاختراعات" الجديدة، بل إن مكاتب حماية الملكية وبراءات الاختراع لم ترَ في "الكود" الألمانيّ أمراً جدياً بحاجة إلى الحماية. وهذا بالضبط ما تستفيد منه "غوغل"، وغيرها من الشركات الكبرى التي بدأها طلاب تركوا الجامعات، وعملوا من كراجات منازلهم، ثم تحولوا خلال عشر سنوات إلى شركات عملاقة تلتهم كل ما يقف بوجهها.
لا يخلو المسلسل من المواقف الدراميّة والتصاعد العاطفي، خصوصاً أننا أمام قصة شابين حالمين، وجدا نفسيهما فجأة من دون أي شيء، وبمواجهة واحدة من أكبر الشركات في العالم. وهذا بالضبط ما يحاول المسلسل أن يضيء عليه؛ أي التجربة الإنسانية بمواجهة الماكينة الرأسمالية، وحسن النية لدى البعض بمواجهة الخداع الذي يتمثل بالمديرين التنفيذيين والشركات الكبرى؛ إذ يجد الشابان نفسيهما فجأة عاجزين عن أي شيء، خصوصاً أنهما خسرا من دون أي حليف، حتى أثناء المحاكمة. الخسارة كانت متوقعة، وهذا بالضبط ما حصل؛ ما من نهاية سعيدة، ولا حلّ للمشكلة، "غوغل إيرث" ما زال موجوداً ومهيمناً.
نتعاطف مع الشابين الألمانيين، ويتحول "غوغل" الذي لا استغناء عنه إلى شيطان، لكن بعد بحث سريع عليه، نكتشف أن الشابين استمرا في العمل، وشركتهما قائمة، وما زالت تقتحم عوالم العالم الافتراضي والتسويق الرقميّ، وهذا ما يفسر المشهد الأخير في المسلسل، إذ يقرر الشابان تطوير تطبيق للتواصل بين الأفراد لا يمكن اختراقه أو مراقبته، ربما في إحالة إلى "واتساب" الذي يعتبر مؤسساه بعد شراء التطبيق من "فيسبوك" خائنين، كونهما، نهايةً، انصاعا لسطوة المال، و"باعا" كل بياناتنا لواحدة من أشد شركات "وادي السيلكيون" إشكاليّةً، ويمكن القول "شراً".