في الوقت الذي كان فيه الفيلم السينمائي لا يزال صامتاً، وكانت هوليوود مشغولة لا تزال بمديح وترسيخ أخلاقيات الغرب المتوحش، ساعدت النساء في تشكيل صناعة السينما الوليدة آنذاك، عبر وسيلتين لم تتغيرا حتى ستينيات القرن الماضي، هما الجمال والصمت، كأن الجمال لا يكتمل إلا بالصمت، ما أضاف الكثير من الغموض على أدوار النساء في تلك الحقبة، ليأتي هذا الكتاب الجديد: "كوني جميلة.. واصمتي، النساء القويات في السينما الأميركية الصامتة"، للناقدة السينمائية البلجيكية أنكه براورز، ليخرجهن من الغموض، قصص نساء صامتات لكنهن عنيدات، قدّمن تمردهن - ولو إلى حين - على شاشة السينما الصامتة، قبل أن يطمسهن الزمن بغموضه هو الآخر.
كانت غلوريا سوانسون Gloria Swanson، نجمة سينمائية صامتة في عشرينيات القرن الماضي، قدمت سنة 1950 فيلم Sunset Boulevard، المقتبس اسمه من اسم شارع رئيسي يمر عبر هوليوود، مركز صناعة السينما الأميركية، والذي يحكي عن ممثلة سينمائية صامتة لديها أوهام حول العودة من جديد إلى عالم الأضواء. في كتابها الجديد "كوني جميلة.. واصمتي"، تقدم أنكه براورز، الناقدة السينمائية الفلمنكية وأستاذة تاريخ السينما في جامعة أنتويرب، تأريخاً جديداً لبدايات النساء في السينما الأميركية الصامتة، وتكاد غلوريا سوانسون تظهر في جميع فصول الكتاب كأنها تروي لنا تاريخ إخفاء الدور الكبير الذي لعبته النساء في صناعة السينما منذ كانت صامتة، ليست سوانسون وحدها من تظهر في ثنايا الكتاب المثير، بل العديد غيرها من النساء اللواتي لم نكن نعرف عنهن غير أسمائهن.
إرهاصات التمرد الأنثوي
تكتب أنكه براورز عن الفترة التي لم تكن فيها عناوين الوظائف في المجال السينمائي قد اتضحت بعد، فالفروق لم تكن قد وضعت بعد بين الـ"ممثل" أو الـ"مصور" أو الـ"مخرج". وشكل هذا المناخ ما يمكن اعتباره مختبراً للمواهب الجديدة ممن يريدون أن يتعلموا، هذه الرغبة في التعلم وضعت أصحابها أمام العديد من التحديات، وهنا بدأت أسماء النساء تلمع في مجال السينما الناشئة آنذاك، ومن بينهن غلوريا سوانسون، التي كانت أيضاً جريئة كفاية لتقدم أعمالاً مشاكسة، مثلما فعلت حين قدمت عام 1919 فيلمها المثير "ذكر وأنثى" Male and Female، لتسرد من خلاله إرهاصات التمرد الأنثوي الذي سيكتمل بعد ما يزيد عن نصف قرن، من خلال العلاقة بين السيدة ماري لوام (سوانسون) الأرستقراطية البريطانية، وخادمها كريشتون (ميغان). يتخيل كريشتون قصة حب مع ماري، لكنها تحتقره بسبب الطبقة الاجتماعية الدنيا. وهو ما يتغير عندما تتحطم السفينة التي يستقلها الاثنان وترسو على جزيرة مهجورة، لتتغير العلاقة بين السيدة وخادمها، فيصبح هو الملك على الجزيرة، وتكاد هي أن تصبح خادمته.
تحايلات رقابية
تكشف أنكه براورز في كتابها حقيقة كدنا ننساها، وهي أن الكاميرا السينمائية عند اكتشافها كانت أداة قبل أن يصبح الفيلم وسيطاً، فاللقطات الأولى التي سجلتها الكاميرا عند اختراعها عرضت مشاهد من الشوارع أو لأطفال يأكلون ويضحكون. وهو ما دفع امرأة في فرنسا اسمها أليس غاي بلاشه Alice Guy-Blaché، والتي أعيد إليها الاعتبار في السنوات الأخيرة بوصفها رائدة سينمائية، إلى التفكير في تسجيل قصص مصورة بهذا الاختراع الجديد، لذلك تعتبر كثير من الدراسات الحديثة أن أليس غاي هي المرأة التي اخترعت الفيلم الروائي بشكله الراهن، استطاعت غاي أن تنتج خلال حياتها الطويلة (94 عاماً)، أكثر من أربعمائة فيلم، لكنها رغم ذلك، تموت مفلسة.
سنة 1919، تأسست شركة يونايتد أرتيستس United Artists على يد النجوم ماري بيكفورد Mary Pickford ودوغلاس فيربانكس Douglas Fairbanks وشارلي شابلن مع المخرج دي. دبليو. غريفيث D.W. Griffith. شابلن الذي اعترف في سيرته الذاتية بأنه واجه صعوبات كثيرة في تقبل توجيهات المخرجة والممثلة والمنتجة مابل نورماند Mabel Normand في أفلامها الأولى معه، شعر بالفزع عندما اكتشف أن ماري بيكفورد تفهم العقود السينمائية التي كانوا يناقشونها في شركة يونايتد أرتيستس أفضل منه. حتى ذلك الحين كانت النساء أنفسهن يجدن أنه من غير المألوف أن تكون المرأة على دراية بالأمور المالية، فهذا عمل الرجال لا النساء!
سرعان ما انضمت غلوريا سوانسون أيضاً إلى شركة United Artists. لم تكن رائدة صناعة مثل ماري بيكفورد، بل منتجة إبداعية أكثر. تكتب براورز عن كيف تحايلت سوانسون على لجان الرقابة الأميركية آنذاك كساحرة ليوافقوا لها على تصوير قصة عن عاهرة. وخرج الفيلم سنة 1928 بعنوان سادي طومسون Sadie Thompson، ليحقق، ليس فقط نجاحاً كبيراً في شباك التذاكر، بل ويحصل فوق ذلك على ترشيحين لجائزة الأوسكار.
على الرغم من كل هذا النجاح النسائي في هوليوود الصامتة، لم يستمر الأمر طويلاً، فوفقاً للكاتبة: "أُعيدت النساء اللواتي أبقين المصانع تعمل خلال الحرب العالمية الأولى مرة أخرى إلى ديارهن عام 1918"، وفي هوليوود أيضاً كانت الأمور تتغير سريعاً، فبدأ الرجال في الحصول على أماكن ووظائف النساء، فعلى سبيل المثال، طلب من المغامر والساحر هاري هوديني Harry Houdini الظهور في سلسلة The Perils of Pauline بديلاً عن بعض الممثلات الأخريات!
بدأت الأمور تتغير أسرع فأسرع مع بداية سنوات العشرينيات من القرن الماضي، صحيح أن مساهمة النساء في السينما الأميركية كانت لا تزال واسعة وملموسة في التمثيل والكتابة والإخراج آنذاك، إلا أن إدراك وول ستريت أن صناعة الأفلام ستصبح تجارة كبيرة، عجل بوقوع هوليوود تحت سيطرة المزيد من الرجال، وقتها انتشرت آراء في الصحف تبرر إبعاد النساء عن المشهد، تارة لأنه "كلما زادت الميزانيات، قل اهتمام المستثمرين بالعمل مع مديرين عاطفيين وغير مستجيبين"، أي النساء. وأخرى لأن "العمل تحت قيادة النساء ليس شيئاً سهلاً يتقبله الذكور"