جريمة قتل تؤدّي إلى حكمٍ بالسجن 20 عاماً. تفاصيل الجريمة تنكشف شيئاً فشيئاً، والمحكوم عليها بتهمة القتل تستعيد تلك اللحظات القليلة، التي تُغيّر كلّ شيءٍ في حياتها، بين حينٍ وآخر. للمحكوم عليها شقيقةٌ، لها 5 أعوامٍ فقط عند ارتكاب القتل. الخروج من السجن، بعد اعترافٍ بالجريمة التي ثمنها 20 عاماً، يضع المحكوم عليها أمام واقعٍ جديد: لن تعرف شيئاً عن شقيقتها، التي ستكتب لها مراراً في 20 عاماً، من دون استلام أي رسالة ـ ردّ منها. العالم الذي يستقبلها، بعد مرور تلك الأعوام، مختلفٌ تماماً: "ستبقين بالنسبة إلى الناس قاتلة"، والضحية شرطيٌّ له عائلة مكوّنة من أرملةٍ مُمدّدة، في منزلها، على سرير المرض، جرّاء زمنٍ طويل ومرير من الإدمان على الكحول، وشقيقان أحدهما متزوّج وله ابنة، وثانيهما أعزب مهووس بالثأر من قاتلة والده.
تفاصيل كهذه عادية للغاية. هناك عائلة أخرى تظهر في "لا يُغتَفر (The Unforgivable)"، جديد (2021) الألمانية نورا فِنْغْشايت (نتفليكس). زوجان وابنتان، تتعرّض إحداهما لحادث سيارة، تخرج منه بعطبٍ في يدها اليُسرى، ما يؤخّر تمريناتها على عزف البيانو. كلامٌ يتردّد بين الوالدين، يُفهَم منه أنّ هناك علاقة ما بين الابنة عازفة البيانو وخروج المحكوم عليها من السجن. حقيقة المسألة تنكشف لاحقاً، كأمورٍ كثيرة أخرى. أي بعد رحلة مليئة بقهر وألم وتحدّيات، وبعنفٍ مُعظمه كلامٌ يعكس وقائع وحالاتٍ وماضياً يرفض الخروج من راهنٍ، معطوبٍ أصلاً، لأنّ المحكوم عليها تريد، فقط، اطمئناناً على شقيقتها، التي تُربّيها لـ5 أعوام، فوالدتهما تُتوفّى لحظة ولادة الصغيرة.
روث سلايتر (ساندرا بولوك، المُشاركة في الإنتاج عبر شركتها Fortis Films) "تقتل" شرطياً، فيُحكم عليها بالسجن 20 عاماً. المُشرف على إطلاق سراحها المشروط، فنسنت كْروس (روب مورغان)، يؤمِّن لها عملاً في مسمكةٍ، وهذا غير مُتوافق مع احترافها أعمال النجارة، البارعة فيها، فتعثر عليها في مبنى يُجهَّز لإيواء مُشرّدين. ذهابها، ذات يومٍ، إلى المنزل ـ ساحة الجريمة، يؤسِّس علاقةً بالمحامي جون إنغرام (فنسنت دونوفْريو) وزوجته ليز (فيولا ديفيس). لن تُخبرهما أي شيءٍ عنها، باستثناء أنّها صانعة ترتيبات مختلفة في المنزل، قبل سنين. لاحقاً، تطلب من جون مساعدةً: تريد لقاء والديّ شقيقتها بالتبنّي، كايتي، بل كاثرين مالكولم (آشلينغ فرانشيوزي)، عازفة البيانو.
يُمكن سرد الحكاية كلّها، من دون الإضاءة على مخفيّ، يظهر في الثلث الأخير من "لا يُغتَفر" (112 دقيقة). الحكاية عاديةٌ، ومسارها الدرامي يحصل مراراً في بلدانٍ ومجتمعات وبيئات مختلفة. سبب الجريمة؟ بعد انتحار والدهما، ترفض روث ترك المنزل، وتُهدِّد الشرطة بإطلاق الرصاص من بندقية تملكها. يقتحم "الشْريف" المنزل من بابٍ خلفيّ، ويُقتَل. الأهمّ كامنٌ في مسائل أخرى: أسئلة الذنب والمغفرة والانتقام مطروحةٌ؛ الشعور بالتغييب قاتلٌ؛ البحث عن خلاصٍ من ماضٍ ثقيل مُتعِبٌ؛ الندم أساسيّ؛ العلاقة بالمجتمع فصلٌ من سيرة امرأة، تحمل آثار خطيئةٍ غير مُرتكِبةٍ إياها.
هذا بعض مضمونٍ، يتناوله سيناريو بيتر كريغ وهيلاري سايتس وكُرْتُوني مايلز (عن سلسلة تلفزيونية بريطانية بعنوان "غير مغفور (Unforgiven)" لسالي وانرايت، 2009)، في سرده حكاية امرأة تريد قيامةً من جحيمٍ، تعيش أهواله 20 عاماً.
الأهمّ أيضاً في "لا يُغتَفر" يحضر في أداء ساندرا بولوك، المتخلّصة من كلّ جمالٍ لها، ومن كلّ ماكياجٍ وتجميل، والغارقة في بؤسٍ، يُسحِر مُشاهده لشدّة امتلاكه براعة تمثيل، جزءٌ منها (البراعة) متأتية من حِرفية مهنيّة، يندر أنْ تبرع فيها بولوك، رغم سيرتيها السينمائية والتلفزيونية المديدتين (بدءاً من منتصف ثمانينيات القرن الـ20). ندرة التألّق تمنحها "أوسكار" أفضل ممثلة (2010)، عن دورها في Blind Side لجون لي هانكوك (2009)، وتُتيح لها اختبار دورٍ غير مألوفٍ في سيرتها: Bird Box لسوزان بيير (2018). ثقل الحزن والألم والتمزّق تُظهره بولوك في شخص روث سلايتر، بكلّ ما يتطلّبه من ملامح وحركاتٍ وتصرّفاتٍ، رغم أنّ في هذا كلّه شيئاً من حِرفية تحجب، أحياناً، تلك البراعة المنتظرة من ممثلةٍ، يغلب التشويق (أكشن) والهزل (أكثر من الكوميديا) والمغامرة العادية على اللائحة الطويلة لأفلامها السينمائية.
هذا غير لاغٍ حِرفية آخرين، أوّلهم فيولا ديفيس، رغم قلّة المَشاهد الظاهرة فيها. حِرفية تؤكّد أصول مهنةٍ، تتطلّب حِرفية كهذه. النصّ، بطرحه أسئلةً وبتقديمه صُوراً عن نفسٍ وذاتٍ وروحٍ وعلاقات وبيئة، يتفوّق قليلاً على أداءٍ واشتغالٍ وتفاصيل. المعالجة السينمائية مُصابة بميلودراما قاتلة، تُزيد الموسيقى (هانس زيمر وديفيد فلامينغ) حدَّتها البكائية، غير اللائقة بالنواة الدرامية المهمّة للنصّ، وبالأداء الجميل لساندرا بولوك، تحديداً.