مثل طقس المدينة المُتقلّب، بين حرارة مرتفعة وشمس حامية، وبرودة وغيوم ماطرة، تتنوّع عروض الدورة الـ56 (1 ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". ينطبق الأمر نفسه تماماً على المدينة، التي تبدو بناياتها في حلّة بهيّة للغاية، هذا العام. كأنّها خرجت لتوّها من ترميمٍ وتجديدٍ استمرّا طويلاً. هذا ملموس في مختلف أرجائها، حتّى في ما يتعلّق بالمطاعم والمحلّات والحدائق العائمة. يُلاحَظ هذا، تحديداً، في الأماكن المحيطة بمقرّ المهرجان، فندق "تيرمال"، ما يدلّ على تخطيطٍ مسبق، وتنسيق من المدينة وإدارة المهرجان، لخلق كلّ هذا التناغم والتنوّع والجمال والاختلاف، مقارنةً بالأعوام السابقة.
الاختلاف والتنوّع، الملموسان في الخارج، يُمكن رصدهما بسهولة في قاعات العرض، أيضاً، إذْ خرجت برمجة دورة هذا العام عن النمطية والتقليدية والانغلاق الجغرافي، إلى حدّ بعيدٍ، وانفتحت على آفاقٍ أكثر رحابة وثراء، وعلى أعمال، غالبيتها ذات خيال خصب، وخالية من التنميط والدراما المُستهْلَكة، وذات معالجات مبتكرة جداً بمعظمها، لمخرجين معروفين، ولآخرين يُقدّمون أفلاماً أولى أو ثانية لهم. تجلّى هذا، بشدّة، إلى الآن، في مسابقتي "الكرة البلورية" و"بروكسيما"، بعد عرض نصف أفلامهما.
هنا، قراءة أولى لأفلامٍ مُشاركة في "مسابقة الكرة البلورية":
ضمن نوعيّته السينمائية، يُعتبر الفيلم الليتواني "فيسبر"، لكريستينا بوزيت (1982) وبرونو سامبر (1974)، من أفضل أفلام الخيال العلمي الفنية، المعروضة هذا العام، خيالاً وتنفيذاً. تدور أحداثه في مرحلةٍ ما، في المستقبل، مع انهيار النظام البيئي للأرض. تحاول الصبية فيسبر توفير الطعام لها ولوالدها المشلول، عبر إجراء تجارب على عيّنات بيولوجية في مختبرها، في الغابة، على أطراف قلعةٍ يُدار منها العالم. تعثر على امرأةٍ غامضةٍ ذات يوم، وهذا يدفعها إلى أملٍ في أنّ الأمور ربما ستتغيّر.
المخرجة التشيكوسلوفاكية بياتا باركانوفا (1985) تعود إلى "كارلوفي فاري"، في المسابقة الرئيسية، بفيلمٍ سياسي اجتماعي قاتم، بعنوان "الكلمة": عائلة فاسلاف فويش، المحامي المشهور والمرموق، في بلدة صغيرة في تشيكوسلوفيا (سابقاً)، عام 1968. يعيش زوجان مع طفليهما حياة رائعة وهادئة، يُلمس فيها حنانٌ ووُدّ، واحترامٌ مُتبادل، ومبادئ أخلاقية رائعة. لكنّ هذا كلّه يُفسده ضغط عناصر من النظام على فاسلاف، للانضمام إلى الحزب. أمرٌ يظلّ يرفضه بشدّة، ما يجلب عليه مصائب كثيرة، تدفعه، في النهاية، إلى اتّخاذ قرارٍ صعب.
"العاديون"، للألمانية صوفي لينينباوم (1986)، فيلمٌ يجمع بين الخيال الجامح والموسيقى والرقص والطرافة، ويغوص في قلب صناعة السينما بطريقة مغايرة. هكذا قدّمت المخرجة جديدَها المختلف، تحيةً منها لفنّ السينما، وتحديداً للممثّلين المغمورين، إذْ تُشاهد فيه شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية، و"العاديون"، والمقصود بهم أولئك الذين تُقطَع أدوارهم، أو يظهرون في خلفية الكادر، أو يكادون لا يظهرون نهائياً. هذا كلّه من خلال شخصية الشابّة باولا، التي تبحث عن والدها، العامل لفترةٍ طويلة من حياته كممثلٍ "عادي"، لا أثر له في الأرشيف.
إلى ذلك، تدور أحداث الدراما الاجتماعية اللاذعة "بورنهولم الملعونة"، للبولندية آنا كازياك (1979)، في مخيّم على شاطئٍ في جزيرة بورنهولم الدانماركية، حيث تمضي عائلتان إجازتهما الصيفية. عوضاً عن الاستجمام والاسترخاء، تتحوّل العطلة، تدريجياً وبين العائلتين البولنديتين، إلى جحيمٍ، نوعاً ما، مع إثارة نقاشاتٍ وأزمات وتوتّرات عدّة، لأسبابٍ مختلفة، منها تربية الأطفال، وأزمة منتصف العمر، والعلاقة بين الشركاء، وإخفاقات الحياة، وغيرها.
في دراما العلاقات الأسرية، النفسية الجنسية، يتجاوز البولندي توماش فينسكي (1979)، في "حدود الحب"، حدود العلاقة الزوجية، إلى أبعادٍ غير مسبورة، عبر بطليه الشابين بيتر وهانا، اللذين بدأ الملل يتسرّب تدريجياً إلى حياتهما، رغم حبّهما القوي للغاية، ما يدفعهما، كتسلية وتجربة في البداية، إلى الانفتاح الجنسي على الآخرين، وسبر حدودهم، وانعكاس هذا على حياتهما وسلوكهما الجنسي وشخصيّتهما، ما يؤدّي، في النهاية، إلى ما لم يتوقّعاه نهائياً.
في مشاركته الثانية في المهرجان، يُقدّم الجورجيّ سوسو بلايدزي (1986)، في "حجرة تخصّني"، دراما شبابية نفسية قوية، تدور أحداثها في فترة تفشّي كورونا، مع الشابّة تينا، التي تذهب إلى العاصمة تبليسي، بانتظار حبيبها، للعيش معاً. مؤقتاً، تستأجر حجرة في منزل الشابة ميجي؛ وتدريجياً، يُكتَشف تهرّب عشيقها منها، الذي تركت زوجها من أجله. ثم تبدأ علاقة تينا بميجي في التطوّر إلى صداقة عميقة، تفتح لتينا أبواباً على حياةٍ لم تكن تعرف عنها الكثير، ما يؤدّي في النهاية إلى نضج كبير لشخصيّتها.