استطاع مسلسل "هالستون" (Halston) (خمس حلقات)، أن يتجاوز تأطيره كعمل مُقدَّم لمحبي الأزياء، من خلال طرح ناقد يبحث في صلب قضية الإبداع. تم بث المسلسل على منصة نتفليكس، وهو مقتبس عن السيرة الذاتية Simply Halston. العمل من ابتكار شار وايت، وهو كاتب مسرحي قُدمت عروضه على مسرح برودواي، ومن إخرج دانيال ميناهان، وبطولة إيوان مكريغور، وريبيكا ديان، وديفيد بيتو، وكريستا رودريغيز، وبيل بولمان.
تدور أحداث العمل حول المصمم الشهير روي هالستون فرويك، الذي يعتبر رائداً في مجال تصميم الأزياء، إذ استطاع أن يصبح علامة فارقة في عالم الموضة في الولايات المتحدة الأميركية في فترة السبعينيات. ما يميز العرض أنه لا يدور حول قصة نجاح كما هو سائد، بل هو قصة صعود ومن ثم هبوط. فربما قد يبدو اسم هالستون غير مألوف للجيل الحديث المعتاد على ماركات شهيرة، لمصممين مثل كالفين كلاين، لكن هذا ما يجعل سؤال المسلسل يشكل قضية جوهرية. يسلط العمل الضوء على مصمم مبدع رسم صورة حديثة وبسيطة ومتحررة لأزياء فترة الديسكو والمخدرات وصالات الرقص الفخمة، وطبع روح تلك الفترة بإبداعه. لكن، ما يدفع إلى التساؤل هو: أين بات اسم هذا الفنان في المشهد العالمي للأزياء اليوم؟ وهذا ما يجيب مسلسل "هالستون" عنه، من خلال التركيز على ثيمة الصراع بين الفن والإبداع، وبين الواقع المحكوم بالسوق وآلية عمله.
فنشهد قصة تفوق شاب موهوب فقير قادم من الغرب الأميركي الأوسط Midwest beginnings ونجاحه في نيويورك، مدينة الأضواء والشهرة. فقد شملت دائرة أصدقائه بعضًا من أكثر النساء بريقًا في العالم، بما في ذلك إليزابيث تايلور، وبابي بالي، وليزا مينيلي. وأصبح اسمه مرادفًا للتصاميم الأنيقة الكلاسكية. لاحقاً، وفي أوج نجاح هالستون، لم يعد قادراً على إدارة أعماله من الناحية العملية ضمن السوق وشروطه. ولهذا، خسر المصمم اسمه لشركة جي سي بيني. ففي عام 1983، وقّع هالستون صفقة ترخيص مدتها ست سنوات بقيمة 1 مليار دولار مع هذه السلسلة للبيع بالتجزئة.
واشتملت مجموعته على الملابس والأكسسوار ومستحضرات التجميل والعطور بأسعار معقولة للمرأة الأميركية متوسطة الدخل. في ذلك الوقت، اعتبرت هذه الخطوة مثيرة للجدل، إذ لم يقم أي مصمم آخر بترخيص تصميماته لمتجر تجزئة متوسط السعر. وبينما تحمس هالستون لهذه الصفقة، فقد أضرت بسمعته، وتسببت بفقدانه السيطرة على أعماله. لذا، وبعد حين، قام بيرغدورف غودمان بإسقاط خط هالستون المحدود من متجره بعد وقت قصير من الإعلان عن خطط Halston III.
وضمن هذا الصراع، يلمس المتابع معاناة هالستون، الفنان المرهف، في مواجهة منظومة رأسمالية تنهش أولئك الأشخاص غير القادرين على استيعاب قوانينها والتعاطي معها. من اللافت أن المسلسل هو من إنتاج راين ميرفي، المعروف باشتغاله على موضوع الشهرة والأقليات. لكن ما يميز أعماله أنها لا تقدم الشهرة من منظور النجاح، بل عن طريق تحليل المنظومة والعطب الذي يؤدي فيها إلى سحق الأفراد، رغم الموهبة والإبداع. فميرفي يعمل على عكس تردي المنظومة التي تطيح بالمثليين والأقليات العرقية، رغم تحقيقهم الشهرة والنجاح، وقدرتهم على إثبات إبداعهم. لنرى أنها تعود لتجردهم من امتيازاتهم المستحقة، بسبب التمييز والعنصرية والآفات المجتمعية الأخرى. ففي فترة السبعينيات، وحيث التمييز ضد المثليين يظهر صراع هالستون بين الشخصي، وبين ما يفرضه الجو العام من أقنعة اجتماعية تخنق فرادة كل إنسان واختلافه عن الآخرين. ويبدو أن مثلية هالستون قد شكلت وصمة على حياته، دفعته إلى الإدمان، ولمعاناة نفسية أضرت بحياته المهنية. كما رسم المسلسل خيوطاً باهتة غير متعمقة لماضي هذا الفنان، الذي ساهم في تشكيل حياته المستقبلية، وكانت لتبدو أكثر جمالية لو تم تسليط الضوء عليها بشكل أكبر.
من ناحية أخرى، فإن العمل لم يعطِ شخصية مصممة المجوهرات إلسا بيريتي حقها كفنانة ذائعة الصيت في هذا المجال. وظهرت شخصيتها كامرأة مهزوزة تعيش في ظل هالستون. يبدو هذا مأخذاً على عمل ينتقد تهميش الأقليات، بينما لا يمتلك حساسية كافية لمراعاة سؤال كيفية تقديم الشخصيات النسائية ذات التأثير والانتباه، لإعطائهن حقهن ضمن إعلام يتجاهل إنجازاتهن.
ومما لا شك فيه أن العمل عبارة عن إبداع فني في مجال الصورة وأزياء تلك الفترة والألوان والإضاءة. فقد قامت مصممة الأزياء جيريانا سان خوان بعمل مذهل في التقاط البريق والإثارة التي لا تكمن في تصميمات هالستون فحسب، بل أيضاً في العقد نفسه. العمل يقدم متعة بصرية لامتناهية، ويساهم الممثلون بنقل روح السبعينيات وسحرها المتمرد والمبهرج. يمكن القول إن هذا المسلسل من أفضل الأعمال في هذه الفترة على الشاشة الصغيرة لمحبي الأزياء وأعمال تلك الفترة. فبعد مسلسلي "التاج" و"مناورة الملكة"، ظل المتابعون في تعطش لمزيد من هذه العروض.
وهنا، يأتي مسلسل "هالستون" كمساحة جميلة لمتذوقي الفن والأزياء، وللباحثين في الوقت ذاته عن سؤال يساهم في تحدي المنظومة المسمومة وكشف عيوبها. وهذا ما يعمل منتجون كميرفي عليه، أي إعادة البحث في أسباب تهميش الأقليات والعمل لاستعادة إنجازاتهم، ما يؤدي إلى رفع الوعي حول معاناتهم المجتمعية، عسى أن يؤدي هذا إلى تقليل الاضطهاد ضدهم.