ليلة تاريخية، ينتظرها الإيرانيون بفارغ الصبر وشغف كبير في كل عام، كلما اقترب الخريف من نهايته. إنها ليلة "يلدا" أو ليلة "جلة"، تحل هذا العام ليلة الثلاثاء/الأربعاء (الليلة). لكن منذ قرابة ثلاثة أعوام، عكرت الأزمة الاقتصادية، ثم ظروف تفشي جائحة كورونا، صفو أجواء الاحتفال بهذه المناسبة التاريخية.
تحل "يلدا" هذا العام، فيما تراجعت وطأة الجائحة كثيراً خلال الفترة الأخيرة في البلاد، ومعها انفرطت القيود التي فرضتها السلطات على حركة التنقل داخل وخارج المدن، ما يمنح الإيرانيين أجواء أفضل من العام الماضي للاحتفال بـ"يلدا"، فيما ما زالت المشاكل المعيشية تتفاقم وتنهش الإيرانيين، بفعل ارتفاع جنوني لأسعار السلع والخدمات.
غير أن الإيرانيين يأبون إلا أن يحيوا المناسبات الشعبية التراثية، ولو بتحضير مستلزمات أقل، سواء أكانوا فقراء أو أغنياء، وهذا ما ترويه تجربة السنوات الماضية، وأزمات مرت عليهم على مدى قرون وعقود قد مضت. فعادة، يجد الإيرانيون في هذه المناسبات متنفساً للتسلية والترفيه عن النفس للابتعاد، ولو بعض الوقت، عن الهموم والأحزان.
توافق "يلدا" ليلة الثلاثين من الشهر الإيراني "آذر" في كل عام (21 ديسمبر/ كانون الأول)، يليها في إيران اليوم الأول من الشهر الإيراني دي، أول أيام فصل الشتاء. فهي أطول الليالي ويومها هو الأقصر، تطول بعدها الأيام وتقصر الليالي. لذلك، تعد ليلة الانقلاب الشتوي في إيران، التي يتطابق تقويمها مع الانقلابات الطبيعية، فيبدأ نوروزها (عيد النوروز) مع الانقلاب السنوي الربيعي، وتبدأ يلداها مع الانقلاب الشتوي.
"يلدا"، ثاني أهم مناسبة تراثية تاريخية للإيرانيين بعد أعياد النوروز، أي رأس السنة الفارسية الجديدة، التي تصادف في كل عام 21 مارس/آذار. قبل حلول هذه الليلة التراثية بأسبوع، تزدحم شوارع وأسواق المدن الإيرانية، كالعادة، استعدادا للاحتفال بها، فيقومون بتأمين مستلزمات هذه الليلة من فاكهة محددة ومكسرات وطبخ وأطعمة خاصة، تختلف أحيانا باختلاف المناطق الجغرافية التي تتميز عن بعضها في انتماءاتها العرقية والقومية.
"يلدا" كلمة سريانية تعني الولادة، أي ولادة الشمس من جديد، كما يقول الخبير في التاريخ الإيراني معين الدين تقي زادة، الذي أضاف، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن "هناك قناعة أيضا بأن السيد المسيح عيسى بن مريم قد ولد في هذه الليلة، وثم تغير الموعد من على التقويم".
وورد في الأساطير الإيرانية أن "يلدا" ولادة جديدة للنور بعد هزيمة الظلام، فتُروى قصص كثيرة عن الصراع بين آلهة النور والظلام. وتتحدث تلك الأساطير عن أن الشمس تهزم ليلاً مظلماً، هو الأطول، لتولد من جديد في اليوم الذي يليه.
"يلدا" كلمة سريانية تعني الولادة، أي ولادة الشمس من جديد
يقول الخبير تقي زادة إن "الإيرانيين، منذ القدم حتى يومنا هذا، يكرمون هذه الليلة ويحيونها بطقوس وتقاليد متنوعة، لكونها أول ليلة شتاء وأطول وأكثر الليالي السوداء في السنة كلها"، مشيراً إلى أن "شمس الشتاء تولد من رحم يلدا؛ فيبدأ شهر دي، أي هرمزد المأخوذ من أهورامزدا وهو اسم الرب" في الديانة الزردشتية التي اعتنقها الإيرانيون قبل الإسلام، وما زال هناك منهم من يتبع هذا الدين.
يضيف تقي زادة أن اليوم الذي يلي ظلمة "يلدا" هو "يوم مسعود ومبارك" في التاريخ الإيراني القديم، كما أنه أول أيام "أربعينية الشتاء الكبرى"، أو كما يسمى في إيران "جلة بزرغ"، ولذلك تسمى ليلة "يلدا" أيضا بـ"ليلة جلة" (شب جلة).
يقيم الإيرانيون في هذه الليلة طقوساً فيها دلالات إنسانية توارثتها الأجيال منذ آلاف السنين؛ فمن هذه التقاليد، وفق تقي زادة، ما هو مشترك على مستوى البلاد، وما هو مختلف يتصل بثقافات تخص كل منطقة في إيران، مشيراً إلى أن "الجميع يشترك في إحياء وتكريم يلدا؛ فيحضرون "الكرسي" وتحت حرارته الدافئة يروون الحكايات والقصص القديمة، وهم مشغولون بأكل الفاكهة والمكسرات".
"الكرسي" هو عبارة عن طاولة خشبية مربعة الشكل، كان يوضع تحتها جمر أو فحم، وكان يستخدمها الإيرانيون وسيلةً للتدفئة بالشتاء مع حلول ليلة "يلدا"، وما زال البعض يستخدمها في القرى، وحتى في بعض المدن. فامتثالا بالقدماء، يحضر الإيرانيون "الكرسي" في ليلة "يلدا"، فيلتفون حوله في بيوت كبار العائلة، من الأجداد والجدات، إحياء لهذه الليلة.
أما الفواكهة التي يحضرها الإيرانيون في هذه المناسبة على "الكرسي"، فهي الرمان والكاكي والبطيخ، كما يقول تقي زادة، الذي أشار إلى أن القدماء كانوا يخزنون البطيخ تحت التراب أو يضعونه عند خزانات المياه في مكان بارد للإبقاء عليه طازجاً وسليماً لتناوله في ليلة "يلدا".
لهذه الفواكهة رموز ودلالات تاريخية خاصة، عند الإيرانيين، فلونها الأحمر يرمز إلى بزوغ الفجر نهاية الليلة وإلى الفجر الجديد. ويتم تقطيع البطيخ، الذي يعد أساسياً بين الفاكهة الصيفية، بأشكال جميلة تزين المائدة. أما المكسرات والحلويات، فهي للتسلية وقضاء الليلة الأطول مع الأحباب. كما أن على المائدة أيضاً أطعمة خاصة تخص كل منطقة.
ومن التقاليد الأساسية الأخرى في ليلة "يلدا" هو تفاؤل الإيرانيين بالديوان الشعري للشاعر الكبير حافظ شيرازي، فيستخيرون بأشعاره في هذه المناسبة. وهو طقس أيضاً يمارسونه إذا ما أرادوا القيام بأمر مهم ومصيري في حياتهم.