قبل نحو خمسة أشهر، افتتح السوريان بيان آغا وجهاد بكر مركز "يولو آرت" (Yolo Art) للثقافة والفنون، في أحد الأحياء الشعبية في منطقة بالات، في مدينة إسطنبول التركية. يضم المركز خشبة مسرح خاصة بالنشاطات الفنية (موسيقى – غناء – مسرح – ستاند أب كوميدي)، وصالة مقهى رئيسية لاستقبال الزوار والناشطين في المجالين الثقافي والفني، إضافة إلى قسم خاص بالتدريبات والمناقشات ودورات التعليم وعروض الأفلام.
جاءت النواة الأولى لمشروع "يولو آرت" بفضل محاولة خلق حركة ثقافية وفنية عربية في تركيا، وهو ما تشير إليه آغا في حديثها لـ "العربي الجديد": "فكرة المشروع نبعت من الحاجة إلى بيئة ثقافية عربية. شيء أساسي في اهتماماتنا ورغباتنا. تكمن أهمية مثل هذه الأنشطة في خلق عمليات تواصل وتعارف، إلا أننا لم نجد مكاناً ناطقاً باللغة العربية لنشعر بأننا جزء من تلك الأنشطة"، بينما يستدرك بكر قائلًا: "إذا أردنا حضور عرضٍ أو نشاطٍ فني ما، فأين يمكن أن نجد ذلك؟".
هكذا، شرع كل من بكر وآغا في وضع تصور للفكرة ودراستها والتحضير لها، بدءاً باختيار المكان والمنطقة، مروراً بالميزانيات المالية والمتطلبات اللوجستية، وصولاً إلى شكل البرامج الفنية والثقافية وأهدافها وجمهورها ونتائجها، من دون أن يغفل الثنائي عن حجم "المخاطرة" التي هما بصدد خوضها.
يعللان ذلك بقولهما: "هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتقنا. المنتج الخاص بنا هو ثقافة وفن. أي أننا أمام عمل لا يختلف عن أية وظيفة أخرى تريد منها أن تدر لك المال مثل تجارة الملابس ومحال الأطعمة والمفروشات. لقد تربينا في بلاد الشرق الأوسط على أن الثقافة والفنون لا تطعم خبزًا، ونحن نحاول أن نثبت عكس ذلك".
من هنا، تتمركز واحدة من الوسائل التي يعتمدها المركز، في طرح منتجه من خلال علاقته مع الفنانين، سواء كانوا عرباً أم أجانب، بإشراكهم في العملية الثقافية والفنية بالمجان، من دون أن يكون لهم بدل أتعاب يدفعه المركز لهم. يركزون عوضاً عن ذلك على احتساب ثمن التذاكر كبدل مادي لهم، وذلك من أجل "أن يشعر الفنان بأنه مرتبط أكثر بعمله، وهذا جزء من تطوير الفنان وأدواته. فلا يأخذ مستحقاته من قبلنا، بل من الجمهور، وبالتالي سيصبح تلقائياً شريكاً في العملية الثقافية، وليس موظفاً متعاقداً"، بحسب رأيهما.
تغدو فكرة المشروع مطلباً اجتماعياً وفكرياً أكثر منه استثمارياً. السبيل لخلق دوائر معرفية ومساحات اشتباك ثقافية وفنية يتطلب، في الدرجة الأولى، مناخاً اجتماعياً يسهم في تعزيز لغة الخطاب والتواصل. وبالتالي، فإن أي تجربة أو نشاط يقدمه المركز هو في الأساس وسيلة لاستقطاب جمهور متنوع، منهم من هو متعطش لمثل هذه المساحات، من جهة، وغيرهم ممن يتطلب، كما يشير بكر، "استفزاز حاجته للمعرفة والثقافة" من جهة أخرى.
يبدو ذلك جلياً أمام حركة الزوار في المركز، إذ تسود المكان طاقة متوازنة تتيح لرواده، بمختلف مشاربهم وجنسياتهم واهتماماتهم، الانخراط بكل تلقائية وعفوية في نشاطاته وفعالياته. واللافت أن هذا الاستقطاب يولد نفسه بنفسه، فالجمهور في ذاته يتضمن مشتركين من فنانين وممثلين ومغنين. مغنو الراب، مثلًا، نراهم على خشبة المسرح يؤدون فقراتهم الغنائية. مرة بشكل عروض فردية، ومرة أخرى ضمن عروض جماعية تجمع بين رابرز من مختلف البلدان العربية، مثل سورية ومصر والأردن وفلسطين، ثم نجد هؤلاء الرابرز ينخرطون في نقاشات وحوارات وألعاب جماعية، حول مواضيع أخرى، كالكوميديا والأدب والفن عموماً.
يعود نجاح هذا الاندماج إلى العلاقة التفاعلية التي رسمها أصحاب المركز، ضمن ثنائية الفضول والطمأنينة اللتين صقلتا عمليات الاندماج والتواصل بين الحاضرين. يشمل ذلك أيضاً موظفي المركز الذين يتشاركون المهام والنقاشات الفكرية والتجارب الأدائية، من دون أن تقيد طبيعة عملهم أي فوارق ومسميات وظيفية. وفي ذلك رؤية واضحة لنوع التواصل المستهدف عبر نشاطات خاصة تضمن التجريب والتعددية والثقة بين أصحاب المكان وموظفيه والمشاركين فيه، ضمن شيفرة نقدية خاصة تتيح تحقيق تلك الرؤية وبلوغها مسارات أكثر مصداقية وتجريبيةً. على سبيل المثال، هناك فقرة مخصصة عنوانها "سوشيال إيفينت"، تعقد من خلالها اجتماعات حوارية تناقش موضوعات محددة في الفن والثقافة والحياة، وهو ما يتيح المجال للتجريب والتأويل والنقد بين المتحاورين والمشاركين.
وهذا ما يشدد عليه بكر في حديثه إلى "العربي الجديد"، مؤكدًا على الثقافة النقدية كعامل أساسي في عملية التجريب. يقول: "من المهم أن تكون واضحة، حتى نتمكن من خلالها من خلق مجتمع مترابط ومتصل لا يعزز استمراريته وانفتاحه امام المشهد الثقافي إلا من خلال الطرح النقدي". وتضيف آغا: "نعمل على كسر الحواجز بين الناس. وبناء جسور جديدة يكون قوامها الحوار، بغض النظر عن اختلافاتهم. الأهمية تكمن في خلق مساحات من دون أن تكون مشروطة بالموهبة. هذا المناخ الاجتماعي من علاقات ونقاشات والتنقل من نشاط إلى آخر هو في حد ذاته عملية إيجابية لخلق بيئة مناسبة للتطور". يستطرد بكر قائلاً: "في المركز نضع كل جماعة مهتمة بنشاط ما مع جماعة أخرى مهتمة بنشاط آخر. وبذلك يختلط الجميع ثقافياً وفنياً". تتابع آغا حديثها: "ولولا هذه النشاطات والفعاليات لما تمكّنا من إحداث هذا الفارق. من دون الانفتاح على الآخر لا نستطيع عمل شيء. في سورية كان الشائع وجود تكتلات ثقافية تتسم بالجمود والمركزية". تتابع: "يجلس طرفان مع بعضهما بعضاً من دون أن يفهم أحدهما سبب جلوسه مع الآخر، وذلك بسبب وجود قوالب معينة تحدد لهم شكل العلاقة وحدودها".
هذه الرؤية التفاعلية سمحت بجذب مشتركين من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، ورسخت مبدأ المشاركة بين أنواع مختلفة من الفنون. يستقبل المركز على خشبته فرقاً موسيقية وغنائية من عدة بلدان، كالهند وبريطانيا وفرنسا. والأهم من ذلك، هناك فِرَق تركية نجح المركز في استمالة بعضها، للانخراط في العملية الفنية، وهو أمر في غاية الأهمية، نظرًا لخصوصية الفن التركي وثقافته المرتبطة به وبأوساطه، تبعًا لعوامل عدة، على رأسها عامل اللغة الذي يقوض حالة الانفتاح على تجارب عربية أو أجنبية، لأن غالبية المجتمع التركي لا تتحدث اللغة الإنكليزية أو العربية. وبهذا يحقق المركز خطوة متقدمة في علاقته مع الثقافة التركية وعلاقة الأخيرة بالثقافة العربية حتى وإن كانت "هذه الخطوة ما تزال في مراحلها الأولى وتحتاج لمزيد من الوقت للتوسع"، بحسب رأي بكر.
يشعر الزائر والمتدرب والفنان في "يولو آرت" بأن هناك أسرة تحتضنه وترعاه وتقدم له المشورة والأدوات والوسائل المتاحة لاستخراج طاقاتهم وأفكارهم وتعزيز مواهبهم وصلاتهم بعضهم ببعض، علماً أن الطاقات التي يتيحها المرك، لا تخضع لأي تمويل حكومي أو خارجي، ولا ينشدها من الأساس. تجربة شخصية بإمكانات شخصية بلورتها رؤية مستقلة لخلق ثقافة بديلة مستقلة تطرح حلولًا اجتماعية مؤثرة، رغم غياب التأثير الإعلامي الذي يرى بكر به شأناً غير متصل بالاستجابة المجتمعية، بل يحمّل مسؤولية ذلك للجاليات العربية. يعتقد بكر أن "مهمة الجاليات مخاطبة الدولة الحاضنة في طرح أفكارها والتعبير عن متطلبات أبنائها، تمامًا كما تفعل الجاليات العربية في أميركا على سبيل المثال، لكن للأسف، الوعي بفكرة الجالية غير موجود في تركيا".
ربما كانت التجربة لا تزال في بداياتها، غير أن الحامل الثقافي والفني لها يشي بجولة طويلة من الأحلام والتطلعات التي ينظر إليها مؤسسي المركز بنوع من التحدي والمسؤولية. "بعد خمس سنوات، في حال لم يغلق هذا المبنى، نكون قد هيأنا الطريق ليكون يولو آرت علامةً تجارية خاصة، له مسرحه وفضاؤه الخاص غير المقترن بمكان أو مبنى ما. وهذا رهاننا خلال هذه الفترة. وبعد عشر سنوات، إن استطعنا تقديم فنان أو موهبة للعالم، سنكون سعداء جدًا. نسير على ذلك بخطوات بطيئة ومتمهلة لأننا لسنا بحجم علامة تجارية بعد".