استمع إلى الملخص
- **أبو شجاع: رمز المقاومة:** استشهد أبو شجاع من مخيم نور شمس في طولكرم وهو يقاوم الجيش الإسرائيلي، ليصبح رمزاً للصراع الأبدي بين الفلسطينيين وإسرائيل.
- **الصراع مع العدو والشقيق:** الفلسطينيون يواجهون العدو الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، حيث يستمرون في مقاومة مصيرهم التراجيدي، ومخيم نور شمس يرمز للأمل والنور.
حيث أنتَ، تشاهد عن بُعد، حربَ الإبادة التي تستهدف أهلك، تعرف أنها ليست قصة بل قصص، فلكل غزّي قصته، ولكل قصة عناصرها وتطورها وتصاعدها، بل انفجار تناقضاتها في وجه العالم. وليس ثمة شكسبير هنا ولا أسخيلوس، بل نتنياهو الذي يُخرِج لسانه في وجه التاريخ ويقهقه عالياً.
على أن الضحية، الفلسطيني الذي لا يجد حائطاً يستند إليه، الذي يركض طيلة الوقت هارباً من الموت، جائعاً وظامئاً وبما تيسر من ثياب، الذي يلملم جثث أبنائه في أكياس بلاستيكية، ولا يجد وقتاً ولا مقبرة ليدفنها، هو وحده من يكتب التاريخ الآخر، الصورة التي لا يريد العالم أن يراها لقصصه التي تتوالد كالأرانب، فلا تنتهي، فما حاجته والحال هذه إلى مسرحي بغليون مطفأ يبحث عن عناصر عمله وكيفية بنائها درامياً. يكتبها بدمه وهو يحدّق في عتمة الكون من حوله.
ليس ثمة ما يستدعي استحضار مفهوم المحاكاة هنا عند أرسطو أو أفلاطون. ليس ثمة ترف لخشبة مسرح، ولا لبروفات ممثلين، وسينوغرافيا عرض، ومقاعد جمهور. ليس ثمة ما يستدعي استحضار أي شيء أو أي شخص، فالأرض كلها تحوّلت إلى مسرح، إلى شاشة عرض تكتظ بالصور، بالقصص، والحيوات المغدورة، بآمالها وأحلامها وبمصائرها الدامية. كأن الأمور كلها تعود إلى أصل الأشياء والحياة والموت، كأن المسرح هنا هو الحياة نفسها وهي تعيد تشكيل نفسها وتنفجر تناقضاتها، وليس ثمة من بطل سوى ذلك الفلسطيني الصغير، وهو ينظر إلى الله ويسائله.
لقبُه أبو شجاع، لقب التهم الاسم الأصلي وطمره وغطّاه. وكان الفدائيون الأوائل بلا أسماء بل بألقاب. عمره 26 عاماً، وسيظل في العمر نفسه، ذلك لأنه استشهد، قُتل للدقة لأن ثمة قاتلاً لا ينبغي أن يُخفى في التراكيب اللغوية، في الصياغات، فأن تُستشهَد فذلك يعني أن تكافأ دينياً، لكن ذلك يُغيّب القاتلَ، يُخفيه، ويخفي جريمته التي تستدعي العقاب، هنا والآن، لا هناك ويوم القيامة.
الشاب من طولكرم، من مخيمها تحديداً نور شمس، وهو ليس عنقاء أسطورية تموت وتُبعث من رمادها، بل مجرد إنسان خُلق من طين، وقُتل في الرواية الإسرائيلية مرة واحدة على الأقل قبل أن يعود حيّاً يمتشق رشاشه على كتفه. كان ذلك في إبريل/نيسان الماضي حين أعلن الجيش الإسرائيلي مقتل أبو شجاع، قائد كتيبة طولكرم التابعة لسرايا القدس، لكن الشاب واسمه محمد جابر سرعان ما عاد بعد يومين ليستأنف ما بدأه من مقاومة، فلا وقت لديه هو ورفاقه للموت. لكن الموت جاءه أخيراً كما يشتهي، وهو يحمل رشاشه، بين رفاقه ومعهم، دفاعاً عن بلاد قيلت فيها الأناشيد والقصائد أكثر مما تحتمل أرض أخرى، فأصبحت استعارة تمتلئ بدماء أبنائها وكتّاب مراثيهم، وأعادت المشهد الإنساني إلى أصله الأول، حيث قابيل ينظر إلى جثة أخيه حائراً في ما فعل.
كان على سلالة هابيل أن ترث الأرض. كان على الفلسطيني أن يرث أرضه، لكن قابيل وقد تجاوز شعوره الأول بالذنب، واصل تمارينه على القتل حتى صار اسمه نتنياهو، بينما تعدّد هابيل فإذا هو كل فلسطيني في الأرض، فماذا على الضحية أن تفعل لتخرج من إكراهات مصيرها التراجيدي؟ أن تقاوم، وهو ما كان يفعله أبو شجاع.
لا تكتمل عناصر الدراما هنا، بل تزداد وتتوحش، فعلى البطل أن يفاجأ أيضاً بأنه مستهدف من العدو والشقيق معاً، من إسرائيل والسلطة الفلسطينية. هل تذكرون تلك الصور التي بثتها شاشات التلفزة على الهواء مباشرة لقوات الأمن الفلسطينية وهي تحاصر المستشفى، حيث كان يتلقى العلاج؟ آنذاك أنقذه الأهالي من مصير كان يُعدّ له، وينحدر به من مصير الأبطال التراجيديين إلى نهايات الملاحقين الصِغار، وهو ما كان، ليعود أبو شجاع إلى خشبة الحياة، يخوض حربه الكبرى لتغيير مصير أبناء هابيل الذين ما زالوا يُقتلون بينما يقهقه قاتلهم، نتنياهو، ويخرج للعالم لسانه.
هل من غير معنى أن يكون أبو شجاع من مخيم نور شمس؟ المخيم الذي أُطلق عليه هذا الاسم لأنه أول من يستقبل شروق الشمس في طولكرم كلها. هل من غير معنى أن يتكوّن الاسم من النور والشمس؟ يضيءُ دمُك عتمةَ المعنى ويُشرِق، وليس ثمة استعارات هنا، ليس ثمة مسرح يا رفيق.