استمع إلى الملخص
- تعكس بلانشيت من خلال فعلها البسيط والمبتكر قدرة على التمرد ضد القمع، مستخدمةً الألوان الفلسطينية في فستانها كرسالة سلمية وقوية ضد الظلم، مما يجعل تصرفها يترك أثرًا دائمًا.
- يُظهر تصرف بلانشيت الجريء أهمية الفن والثقافة كوسائل للتعبير عن التضامن ومواجهة الظلم، مثيرًا النقاش حول فعالية الإعلانات الرمزية مقابل الأفعال العملية في إحداث تغيير إيجابي.
مُثيرة كايت بلانشيت لمشاعر حلوة إزاء فعلها البارع والذكي، المُلتَقط بمئات عدسات التصوير الفوتوغرافي وكاميرات الإعلام المرئي والهواتف الذكية. فعلٌ منبثقٌ من رغبات عدّة: إعلان موقفٍ إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ تمرّد على قرار "جائر" تفرضه بالقوّة إدارة مهرجان "كانّ"، في دورته الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024)، يتمثّل بمنع أي تصرّف أو قول يتعلّق بتلك الحرب، وبالذين واللواتي يتعرّضون لأبشع عنفٍ يوميّ؛ تبيان مدى الذكاء في التحايل على منعٍ كهذا، والمنع مرفوضٌ أصلاً، ومواقف سابقة لبلانشيت تؤكّد أنّ "تعاطفها" مع من يتعرّض للإبادة الإسرائيلية غير انفعاليّ وغير عابر.
هذه إسقاطات على فعلٍ، ربما تكون بلانشيت غير معنيّة بها، أو أنّها معنيّةٌ بها، لكنْ بأسلوب مختلف. أمّا موقفها فواضحٌ ومعروف. الفعل بحدّ ذاته، الذي يُشبه أفعال ممثلات قليلات، بسيطٌ وعميقٌ: فستان بالأسود والأبيض الظاهِرَين، والأخضر ينكشف مع رفع جانبٍ منه، والأحمر تتكفّل سجادة "قصر المهرجانات والمؤتمرات" في "كانّ" بإكمال المبتغى منه: علم فلسطين. وبلانشيت، إذْ تُمنَع من وضع زرّ تضامن، قبل خروجها إلى السجادة تلك، تبتسم ساخرةً من سخافة منعٍ كهذا، وتبتسم مُجدّداً عند انكشاف علم فلسطين، وابتسامتها الثانية مزيج حبّ وسخرية وتعبير عن قدرة على تمرّد متواضع، لكنّه صادم.
استعادة مواقف سابقة لها، إزاء فلسطين وحرب الإبادة الإسرائيلية، غير مجدية هنا، فالمواقف معروفة ومتداولة، وكلّ مهتمّ ومهتمّة يعرفانها تماماً. معها، علم فلسطين، غير المرفرف عالياً في "كانّ"، أجمل من كلّ قول وارتفاع في هواءٍ، وأذكى من كلّ قمعِ، تتفنّن مهرجانات سينمائية دولية، مُصنّفة فئة أولى على الأقلّ، في ابتكار أدوات تنفيذه. والقمع ذاك، إذْ يتماهى مع سلوك مؤسّسات رسمية وغير رسمية في غربٍ، يعاني عفناً أخلاقياً مُخيفاً، يواجَه بأساليب عدّة، يُشكِّل "علم فلسطين بحسب كايت بلانشيت" أحد تعابيره السلمية الهادئة والبديعة.
فعلُ الممثلة الأسترالية الأميركية سيبقى ثابتاً في مكانه ولحظته وظرفه. لكنْ، هناك إمكانية قولٍ مفاده أنّ تصرّفها هذا غير مُجْدٍ وغير مؤثّر فعلياً، وأنّه إعلان موقف فقط، مع أنّ إعلانَ موقفٍ صحّيٌّ وطبيعيّ. هذا يطرح سؤالاً: أيّهما أجدى وأقوى تأثيراً في مهرجانٍ ومؤسّسة تمنح جوائز: اكتفاءٌ بإعلان موقفٍ كهذا (رغم أهميته وجماله وذكائه)، أم مقاطعةٌ يُنفّذها نجومٌ ونجمات لهم موقع يؤهّلهم، بشكلٍ أو بآخر، لإحداثِ فرقٍ، ولو بسيطاً، في حال المقاطعة؟ "هجوم" سينمائيي "الموجة الفرنسية الجديدة" وسينمائياتها على مهرجان "كانّ"، والهجوم حاصلٌ بمعناه الفعلي والمباشر، لإيقاف دورته الـ21 (التي يُفترض بها أنْ تُقام بين 10 و24 مايو/أيار 1968)، تضامناً مع حركة الطلاب والمزارعين في باريس (أيار 68)، والإيقاف يتمّ بعد عشرة أيام فقط على بدايتها؛ هذا الـ"هجوم" مثلٌ نافعٌ، رغم أنّ الظروف مختلفة تماماً، وكلّ كلامٍ عن إبادة إسرائيلية، أو أقلّ من ذلك أصلاً، يُخوَّن صاحبه وصاحبته ويُحاربان، في غربٍ غارقٍ في عفنِ أخلاقيّ قاتل.
رغم هذا، السؤال مشروعٌ، وطارح السؤال يُدرك تماماً أنّ مقاطعة فردٍ أو أكثر بقليل ـ وإنْ يكن للفرد وأقرانه سلطة معنوية في المشهد السينمائي العام، أقلّه جماهيرياً ـ غير نافعة، إذْ يُفترض بكلّ مقاطعةٍ أنْ تؤذي من يُقاطَع، كي تفعل فعلاً عملياً. لكنْ، ألن يكون نقاش سؤالٍ كهذا ضروري؟ كلامٌ للدنماركي لارس فون ترير، في مؤتمر صحافي (18 مايو/أيار 2011) يُقام بعد عرض "ميلانكوليا"، في الدورة الـ64 (11 ـ 22 مايو/أيار 2011) لمهرجان "كانّ" نفسه، أراده نوعاً من مزاح غير متحرّر كلّياً من رأي (عن أدولف هتلر)، يدفع إدارة المهرجان إلى طرده فعلياً من أروقة "قصر المهرجانات"، ومن المدينة برمّتها. لكنْ، بعد سبعة أعوام، تختار إدارة المهرجان نفسه "المنزل الذي بناه جاك" لعرضه للمرّة الأولى دولياً، وإنْ خارج مسابقة الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018)، مع أنّ فيه إشارات على إعجاب بعمارة نازية.
ألن تكون "سطوة" لارس فون ترير، بوصفه سينمائيّا ترغب مهرجانات سينمائية أولى في امتلاك حقّ العرض الدولي الأول لفيلمٍ له، أحد دوافع الاختيار؟ ألن يكون لكايت بلانشيت، ولزملاء لها وزميلات يلتزمون موقفاً أخلاقياً ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، "سطوة" كهذه، يُمكن الاستفادة منها في حالةٍ آنيّة كالتي يعيشها العالم اليوم؟ أمْ أنّ العفن الغربي أقوى وأعنف وأقدر على التحطيم والتغييب؟
مجدّداً: هذا اقتراح يُناقَش، لا قول صارم ونهائيّ. التساؤلات مشروعة. فعلُ كايت بلانشيت باقٍ في ذاكرة أفرادٍ يشاهدون إبادةً جماعية، من دون قدرة على إيقافها، أو على تقديم مساعدة فعلية وعملية لمن يُواجِه الإبادة. فالجريمة الإسرائيلية الجديدة تتكامل وعفن أخلاقيّ غربيّ، رغم أنّ في إسرائيل والغرب أصواتاً وأفعالاً (وإنْ تكن متواضعة) تقول إنّ هناك ركائز أخلاقية ثابتة، تواجِه بدورها آلة قتل من نوع آخر.
فلسطين كايت بلانشيت إحدى تلك الركائز الغربية، رغم كلّ ما يُقال ويُحلَّل.