لم يقتصر "الحال" (1981) لأحمد المعنوني على التربّع على عرش الوثائقي المغربي، بل تجاوز ذلك ليخلق صيتاً عالمياً لم يتوقّف عن النمو، منذ أن قرّر مارتن سكورسيزي تقديمه في "كلاسيكيات كانّ" عام 2007، كأول عمل يفتتح مشروع ترميم الأفلام وتقديمها من "مؤسّسة السينما العالمية". تتويج هذا المسار تمّ مؤخّراً بالإعلان عن طبع النسخة المرمّمة منه في إصدارٍ منفردٍ، وتوفيره على منصّة عرض مجموعة "كرايتيريون" المرموقة في مايو/ أيار المقبل، تزامناً مع الذكرى الأربعين لتحقيقه.
"الحال" فلتة من فلتات الزمن السينمائي المغربي، ندين لها في لقاء مع سينمائيّ شاب، أظهر موهبة مهمّة في التقاط نبض عيش المجتمع بنَفَسٍ شعري وإنساني ملتزم، يحتفي بحبّ الحياة والرغبة المفعمة في العيش الكريم، في باكورته "آليام آليام" (1978)؛ ومجموعة غنائية أسطورية طبعت الأجيال بأغانيها الخالدة، التي تعدّ ربّما أرفع تعبير فنّي عن التجربة المغربية الحديثة بين كل أصناف الفنّ. يصدح كلّ "فوتوغرام" من "الحال" (1981) بحرّية وصدقٍ، لا يتردّدان في نهج التجريبية والاستبطان، بغية الامتزاج بالمخيال الفني لأعضاء المجموعة، والنّبش في روحانيات مختلف المرجعيات التي تغذّي إلهامهم. لذلك، لا يتردّد المخرج في طَرْق أكثر السبل راديكالية: تعدّد الأصوات، وذهنية المونتاج، ومزاوجة النبرات الشفّافة والمتجرّدة، من دون أن يفقد في أيّ لحظة المسافة المناسبة والضرورية مع طرحه.
كلّ الطرق سالكة لسبر عمق الموروث الغنائي "الغيواني"، وروافده وتجلّياته الصوفية، حيث تمتزج الخرافة بالسياسة، والاجتماع بمشاعر الصفاء السنكروني، والصداقة العابرة لحواجز الموت؛ ما يجعل "الحال" وثيقة إثنوغرافية لا تُقدّر بثمن، لم تفقد ـ بعد انصرام 40 حولاً ـ ذرّة واحدة من تفرّدها وحيويّتها، حول لحظة انصهار الجمهور المغربي مع مجموعةٍ غنائية في بوتقة توحّد روحي وغشيةٍ، عبّرت عن عصارة عيشه بطعميها الحلو والمرّ، عن هواجسه وخيباته، كما أفراحه وآماله في غد أفضلٍ وأكثر كرامة.
(*) يُصنّف تعليق "كرايتيريون" لـ"الحال" بأنّه بين نوعي فيلم الحفلات الموسيقية والفيلم الوثائقي التجريبي، رغم أنّه مُصنّف لفترة طويلة كوثائقي تخييلي، ربما بوازع وضعه في خانة واحدة مع فيلمك الطويل الأول "آليام آليام". كيف تُحدّد نوع الفيلم؟ وما الرؤية التي تسيّدت الفكرة وراءه أولاً، وتحقيقه بعد ذلك؟
يسلك "الحال" مسارات غير مطروقة، لأنّي أردت ابتكار سبلٍ فريدة بنظري، وأنْ أتلافى استدعاء الوصفات الجاهزة. أحبّ أنْ أخرق الحدود، لأبتكر عملاً يجمع بين الفيلم الوثائقي والتخييل والمسرحية. بحثي عن أسلوبٍ شخصي وأصلي يستند إلى هذا الاختراق. مع ذلك، أحرص على أنْ تكون هذه التجاوزات مُتَحكَّماً بها، وأنْ تخضع لرؤية لا هوادة فيها، تجعل من الحقيقة والإحكام مسألتي تدرّج واحترام.
إنّه، في الوقت نفسه، فيلم حفلات موسيقية، وثيقة إثنية ـ موسيقية، وأرشيف لحركة اجتماعية. جاء "الحال" مُفعماً بحرية اختلاجاتي، بغية أنْ أنقل وأمنح رؤية أكثر وفاءً للانبهار الذي أشعر به أمام موسيقى "الغيوان". بفضل الانفلاتات الحالمة، والمسرحية، والرسومية الخالصة أو التجريدية، يفجّر "الحال"، عمداً وبطريقته الخاصة، الأطر المرجعية للوثائقي. جوهر عملي ما رأيتُه وشاركته مع فرقة "ناس الغيوان" في فترة الكتابة، واستكشفته أثناء جولاتها. صمّمت مشروع فيلم ينبني بالكامل على الإلهام الموسيقي لـ"ناس الغيوان"، والحياة اليومية لأعضاء الفرقة، وحيّهم (الحي محمدي)، وجذورهم العميقة في الأرض، وتجلّيهم ـ من دون تلاعب في الألفاظ ـ بصفة شبه سحرية على المسرح، ما أدّى إلى نشوء ظاهرة فريدة، تماهى معها الشباب المغربييّن والعرب في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته.
هكذا وُلد "الحال". الصعوبة في الفيلم كامنةٌ في إعادة إنتاج التأثير العاطفي ـ الذي تكوّن لديّ أمام كلّ عضو من أعضاء فرقة "ناس الغيوان" ـ بكلّ صدق، وأنْ أرسم صدى متفرّداً لشخصياتهم المختلفة. استخدمت أدواتي الفنية المفضّلة، أو ما أسمّيها "صلات الائتلاف": المسرح والكوميديا والموسيقى والمنظور التاريخي. كتبت وصوّرت وأخرجت "الحال"، وأنتَجتْه إيزا جنيني، تاركةً لي الحرية الكاملة في اختياراتي الفنية، لتطبيق تجاربي الخاصة، والجرأة على الثقة في حدسي.
يمكنك القول إنّ "الحال" تعبيرٌ عن حرية تامة. هذه الحرية التي منحته نضارةً، وفتنت المخرج مارتن سكورسيزي، واضعةً المغرب للمرّة الأولى على خريطته السينمائية. لا يزال الافتتان مستمراً بعد 40 عاماً.
(*) إلى أي مدى ساعدت الحساسية الفنية للمنتجَين سهيل بن بركة (كرائد في السينما التخييلية المغربية) وإيزا جِنِيني (بحساسيتها الموسيقية) في تشكيل مشروع الفيلم؟
أدرجت إحدى الأغاني الأكثر رمزية لـ"ناس الغيوان" ("فين غادي بيَ خويا" ـ المحرّر) في افتتاح أول فيلم لي "آليام آليام"، فأثّرت بعمق في الجمهور والنقّاد. بحكم اهتمامي الشديد بالفرقة، كان لديّ مشروع فيلم موسيقيّ عنهم، فطلبَتْ مني المنتجة إيزا جنيني تصوير إحدى حفلاتهم الموسيقية. عرضت عليها مشروع فيلم شخصي أكثر طموحاً وتفرّداً، وقبلته بحماسة وشجاعة. أما سهيل بن بركة، فتدخّل، بدافع الصداقة، للمساعدة في عمليات ما بعد الإنتاج، وسدّ بعض النقص في الموارد المالية.
(*) انبريْتَ لمواضيع مختلفة في كلّ فيلمٍ من الأفلام التي صنعتها. كيف تحافظ على تناسق اختياراتك الجمالية من فيلمٍ إلى آخر؟
يتحكّم الموضوع في تماسك اختياراتي الجمالية منذ "آليام آليام". من دون أيّ ادّعاء، أضع نفسي في خدمة مشاعري، والحاجة الشديدة إلى مشاركتها بحرصٍ ودقّة. هكذا يبدأ العمل الحقيقي للكتابة السينمائية. عندما تثار الأسئلة حول الخيارات الجمالية في البداية، هناك الرغبة التي تغمرك، وتقذف بك وسط إيقاع معيّن تفرضه عليك، ما يفتأ يتضخّم كنهرٍ في طور الامتلاء، يجتاحك بغنى أحاسيسه. فورة من العواطف تتنامى وسطك بهدوء، وتغمرك بموسيقاها الفريدة، فتجعلك تحلم بصُوَر لن تغادرك أبداً. معيار الاختيار يتمثّل في قوّة هذه الرغبة.
(*) بعد المشهد التمهيدي، الذي يحدّد النبرة الموسيقية للفيلم، تقوم بعمل مونتاج بالتناوب بين الحفل الموسيقي (أغنية "الصّينية") ولقطة المتابعة الرائعة، التي تبدأ من وسط "كاريير سنطرال" (حي صفيحي وسط الدار البيضاء ـ المحرّر)، إلى نافورة "ديور لامان"، لالتقاط جوهر شخصية العربي باطما، مثلما فعلت بشكل مختلف مع كلّ عضو في المجموعة. إلى أيّ مدى استجابت هذه البنية لسيناريو تمّ إعداده مسبقاً؟
لا يمكنك تصوير أيّ شيء ذي نجاعة من دون سيناريو، وبلا بناء، أو في غياب فكرة إرشادية. كان لديّ تخطيط دقيق للغاية لكلّ عضو في المجموعة، يساعد على فهم كنه فنّه. تمّ التخطيط لكلّ شيء، والتمرّن عليه بتفصيلٍ كبير من أجل محو أثر التقنية، وإعطاء الحياة فرصة للتغلغل في ثنايا الحكي، حيث كنتُ أتوقّع. لا أفعل ذلك بهذه الطريقة بحثاً عن مسحة حداثة، أو شيء من هذا القبيل. لكنْ، لأنّي أعتقد أنْ وضع كلّ شيء في المكان المطلوب، وتوظيفه عند الحاجة إليه، في نهاية لقطة متابعة طويلة مثلاً، تصبح الأشياء مشرقةً أكثر، أشدّ تعبيريةً وأقلّ برهانيةً، وبالتالي أكثر إثارة للاهتمام.
(*) هذه الفكرة عن جوهر الشخصيات، التي كانت ضرورية لالتقاط تنوّع وثراء إلهام "ناس الغيوان" (إرث الشاوية، الزجل عند باطما، التراث الأمازيغي لعمر السيد، فنّ كناوة لعبد الرحمن باكو)، متجذّرة في الصوفية، تماماً كمفهوم "الحال" (حالة الغشية، أو التّجلي بالدارجة) الموحي بعنوان الفيلم. هل كنت متأثّراً بالأفكار الصوفية؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، ما هي التأثيرات الروحية التي كانت تحرّكك؟
كلّ فيلمٍ فريد من نوعه. الكيمياء التي تشعّ من "الحال" تجد سرّها في اللقاء بين تساؤلاتي الخاصة والإلهام الروحي لـ"ناس الغيوان". يفصح "الحال" عن أصالة الينابيع الموسيقية للفرقة. عندما رافقت أعضاءها إلى الصويرة، من أجل مقاطع "كناوة"، كنتُ مفتوناً بالسطوة الروحية الغامضة لهذه الموسيقى، وبتواضع عبد الرحمن باكو في خدمتها، كما لو تعلّق الأمر بمنظومة اعتقاد دينية. تشهد على ذلك اللقطة الطويلة لموكب الإعلان عن "ليلة الحضرة" في الشارع، من خلال مونتاج اللقطات المقرّبة، بحيث تصبح شبيهة بتركيبة تجريدية. هذه الصُور تُقرّبنا من أجواء الإلهام الروحي للمعلّم عبد الرحمن. إنّ سحر موسيقى الانبثاق الصوفي هذا لا يزال قائماً في المغرب اليوم، بما أنها لا تزال تتمتع بالقدرة على جعل جسد الشعب وروحه يهتزّان في تناغمٍ تام.