رغم حصوله على جائزة "الأسد الذهبي"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" (الأول لمخرجة منذ عقد)، لم يغدُ "أرض الرحّل" Nomadland (2020)، لكلويه جاو (1982) ـ الفائز أيضاً بجائزتي "غولدن غلوب" في فئتي أفضل فيلم وأفضل إخراج (28 فبراير/ شباط 2021) ـ حديث النقد السينمائي عن اشتغالاتٍ بصرية بسيطة ومُكثّفة ومُؤثّرة وشاردة، تبحث عن عناصر دقيقة من الحياة الموجعة للإنسان، أمام سطوة مفاهيم وقيم وأنظمة رأسمالية وجهات سياسية.
النقد السينمائيّ غير معنيّ بأفلام كهذه، إذْ يعتقد أنّها لا تُنتج خطاباً سينمائياً قادراً على التأثير في المُتلقّي. علماً أنّ زملاء مهنة كثيرين تأثّروا بفيلم جاو، ما يطرح أسئلة وجودية قلقة عن حياتنا الراهنة وشكلها، وعمّا ينبغي لها أنْ تكون عليه طبيعياً.
رغبة كلويه جاو بإنتاج صُوَر سينمائية بيضاء، لا تقول شيئاً، ساهمت في إنتاج جماليّات بصرية مُتحرّرة من المألوف السينمائيّ الأميركي، الذي يعيش أزمة انفصام سينمائيّ، بين واقع أميركيّ مُفكّك ومُتصدّع، وآخر مترهّل، يتنطّع بقسوة وسخرية إلى "ابتكار" صُوَر، يعتبرها مخرجون عديدون واقعية، تستجيب أكثر لتطلّعات مرحلة تسخر منهم. صحافيون كثيرون يعتبرون الفراغات في الفيلم عجزاً لدى جاو عن إنتاج صُوَر سينمائية مُبتكرة، من دون انتباههم إلى أهميّة الصمت والفراغ واللعب بالأضواء والظلال الطبيعية والفضاء، كمُؤثّرات بصرية، تُغني الفيلم عن البوح، وتجعله باهتاً، إذا انتزع لنفسه شهوة الكلام.
النقد مُطالبٌ بالحفر في ما تريد صُوَر كلويه جاو أنْ تتستّر عليه، لا ما ترغب الصورة في قوله. فللتستّر في الرهان على صُور بيضاء مُبرّرات سياسية، أكثر منها فنية وجمالية. السبب يعود إلى النقد المُضمر، الذي تُوجّهه جاو إلى النظام الرأسمالي الأميركي المُتعفّن، بألسنة شخصياتها الضعيفة والمُستعْبدة من شركات اقتصادية. ورغم أنّ هذا النقد لا يطفح إلى سطح الصورة، فإنّه يحضر في عمقها، وتكشفه ـ بين حين وآخر ـ حوارات الشخصيات البرّانية عن الحكاية الأصل.
لا ترتكز قيمة الفيلم وجماليّاته على الصورة فقط، بل على نباهة التأليف أيضاً. فالسيناريو (جاو نفسها، مقتبسة إياه من كتاب "نومادلاند: بقاء أميركا حيّة في القرن الـ21" لجيسيكا برودر) يشدّ المُشاهد، لا الصُور البيضاء المُتحرّرة من كليشيهات بصرية، ونجوم أميركيين عديدين يُجيدون الطقوس السينمائية. خلوّ الفيلم من هذه الأيقونات السينمائية لم يؤثّر عليه، بقدر ما كان عاملاً إيجابياً، نظراً إلى خاصّية النصّ وحبكته وشخوصه. طريقة الأداء تُبلور جديداً سينمائياً، يبحث عن حقيقةٍ في صُور سينمائية تُقيم على حافة الخيال.
المُثير للدهشة والتفكير أنّ الشخصيات تبدو أجساداً خيالية ـ واقعية، تدخل بهدوء لتُطعِّم الحكاية، ثم تخرج وتتفلّت من قبضة الفيلم. مع أنّ حضورها وأقوالها تبقى حاضرة في ذهن المُشاهد، وتمنحه شعوراً يمتزج فيه الفرح بالغُبن، والضعف بالقوّة. شخصيات أشبه بألياف بصرية، تتفرّع من جسد الحكاية ـ الصورة، وتُكمِّل بنية الحكاية الأولى. طريقة مُدهشة في التقاط تفاصيل داخلية موجعة من حياة نساء.
في سردها حكايتها، لا تتخلّى كلويه جاو عن تفكيك عناصر الحكاية، على لسان شخصيات أخرى ثانوية، تمنحها نفساً آخر بتشذير الحكاية الأصل، فتبدو ـ في مرحلة ما ـ كأنّها أضحت مُفتّتة بمثابة ألياف بصرية. هذا اللعب بخيط الحكاية وحدّة السرد يجعلان كلّ صورة ـ حكاية، مُشكّلة سابقاً، تُؤثّر على الأخرى اللاحقة. وبقدر ما تُفتّت الحكايات وتتلاحم في نسيج الصُوَر السينمائية، تزداد غرابة الشخصيات وتوحّدها في بلد يُعاني من مصائب وأهوال. ورغم ضعفها أمام الغياب والتخلّي عنها من عائلاتها، تبدو الشخصيات أكثر سعادة، وغير مُستسلمة لكلّ عائق يُمكن أنْ يصيبها.
تقول امرأة مُسنّة، اعتزمت إكمال رحلتها إلى ألاسكا، في الأسابيع القليلة المُتبقية لها قبل وفاتها: "سأبلغ 75 عاماً هذه السنة. أظنّ أنّي حظيت بحياة جميلة. رأيت أشياء جميلة كثيرة في كاياكي وغيرها من الأماكن. الأوزة البيضاء الكبيرة، التي هبطت على بعد 6 أقدام من قاربي، في بحيرة كولورادو. في مروري، كان هناك منحدر. مئات أعشاش السنونو على جدران المُنحدر، والطيور تحلّق في الأرجاء، وتنعكس صورتها على الماء، فأبدو كأنّي أشاركها التحليق، وهي حولي في الاتّجاهات كلّها".
رغم أنّها توهم المُشاهد منذ البداية بكونه يتابع أحداثاً وقعت عام 2011، إثر توقّف مصانع أميركية عن العمل في منطقة "إمباير ـ نيفادا"، بعد 88 عاماً من العمل المُتواصل، تجعل كلويه جاو من الحدث عنصراً بصرياً محرّكاً، يدفع الأحداث إلى ما لا نهاية لها من تأثير تراجيدي، بطرح حكاية امرأة (فرانسيس مكدورماند)، تبلغ من العمر 60 عاماً، تعتبرها عائلتها مُشرّدة، بعدما فقدت زوجها، فتُقرّر الرحيل من مدينة أحبّتها إلى مناطق أخرى، أكثر دفئاً وحبّاً. تُصادف مرحلة كساد اقتصادي عرفتها أميركا عام 2011، فتضطر إلى الإقامة في سيارتها، والبحث عن عمل في مناطق دافئة تنتقل إليها.
في تلك التنقّلات البائسة والحزينة والمُتشظّية، ترصد جاو حياة المُهمّشين والمنكوبين، الذين تخلّت عنهم عائلاتهم، أو الذين وجدوا أنفسهم أمام أمراض مُزمنة، فقرّروا الرحيل إلى مناطق أجمل وأكثر عزلة من الحياة الرأسمالية في المُجتمع الأميركي. شخصيات تُوجّه خيط الحكي، لا فيرن (ماكدورماند)، الحريصة دائماً على الاستماع إلى لاوعيها، والركون إلى صمت لا تُكسّر حدّته إلّا محادثات ونقاشات مع العائلة وأصدقاء العمل، الذين لا مأوى لهم.
بعض المَشاهد لا تُفصَل عن التأثير الوثائقي لقصص وحكايات، تزداد وجعاً وألماً، أمام اندهاش فيرن ونظراتها الذكية وصمتها الرهيب، والأكثر تعبيراً وبراعة على مستوى الأداء. بملامحها ونظراتها، تعكس حزناً دفيناً، يُبلور هذه الحكايات ويتشرّبها، ثم تُفرزها بحركة يد، أو بنظرة قاسية موجعة، أو بابتسامة عابرة، تختزن في قسماتها دلالات أنطولوجية كثيرة عن حياتها اليوم، كفردٍ في عالم رأسمالي، يتمدّد بغطرسة وهجانة وتوحّش. هذا التعدّد في الحكي، أنتج صُوراً مُتنوّعة لحكاية واحدة، أشبه ببلور مُتعدّد الأضلع، في كل واحد منه تظهر حكاية، مع أنّها كلّها لا تخرج عن سيرة أو أسلوب عيش، سبق للفنّان الفرنسي جياكوميتي أنْ لخّصه في منحوتة الرجل الذي يمشي ضد وطنه وواقعه وأحزانه، حتى لا يقوده ذلك إلى الانتحار. فلا شيء سوى السفر والرحيل والتهجير والنفي.
بهذه الطريقة، تصوّر الفنّان حياة الأفراد في القرون القليلة المقبلة. هذا من دون نسيان أنّ إطلاق "أرض الرحّل" حاصلٌ في مرحلة مُرتبكة يعيشها العالم، نتيجة وباء قاس، يفرض نفسه كسُلطة قاهرة على المجتمعات، ما يدفع إلى مُشاهدة الفيلم بشراهة في مرحلة أدرك فيها العالم أنّ حياته مُهدّدة، والتقدّم العلمي، الذي تتباهى به دول كثيرة في أفلامها السينمائية، غير قادر على التقليل من انتشار حدّة الوباء، أو بالأحرى أنْ يُجابهه علمياً، عبر إنتاج لقاح يقضي عليه نهائياً.
أليست صورتنا الساخرة الآن تُشبه حياة فيرن، ونحن نودع قيماً إنسانية وترابطات اجتماعية في مُجتمعات مُعوّقة ذهنياً، تُعاني من استسهال تسلّطي لأنظمة استبدادية قمعية، وُصفت بأنّها الأعتى تسلّطاً ومكراً وهجانةً في تاريخ المجتمعات المقهورة سياسياً واجتماعياً؟
أقلّه، قرّرت فيرن عيش مصيرها المأساوي، المفروض عليها بكلّ تراجيديته.