في الجزء الأول من حوار "العربي الجديد" معها (14 أكتوبر/تشرين الأول 2022)، تحدّثت المخرجة المغربية أسماء المدير عن تفاصيل فنية وحياتية وشخصية وإنسانية واجتماعية، تتعلّق كلّها بفيلمها الأخير "في زاوية أمّي"، أو "بوستكارد"، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي، في الدورة الـ27 (10 ـ 17 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط".
"في زواية أمي" أول فيلم في ثلاثية، قبل "أم الحياة.. كذب أبيض" و"أمي جحيمي الأبدي". تقول المدير إنّ فكرة الثلاثية متأتية من حكايتها الشخصية مع أمّها، في "أم الحياة.. كذب أبيض"، إذ إنّها "لم تعطِني صورة حقيقية، بل صورة مزيّفة، وسلسلة أكاذيب". هذا دافع لها إلى التفكير مليّاً: "لماذا لا أعود إلى الأصل والمكان اللذين جاءت أمي منهما؟".
لا تزال أسماء المدير تخطو خطواتها الأولى في السينما، بشغفٍ واضح يظهر في مغامرتها بهذا الفيلم، وبمواصلتها العمل على الجزأين الآخرين، مع دعمِ جهاتٍ إنتاجية مهمّة، كـ"الجزيرة الوثائقية" ومنصّة "نتفليكس". مشاريع واشتغالات، تكشف مواصلة المخرجة الشابة والواعدة في التنقيب في جذورها عبر رحلاتٍ في الأزمنة والأمكنة والذات والروح والعلاقات.
(*) ماذا كان أول ردّ فعل عندما بدأتِ السباحة؟
كان فظيعاً. قبل السباحة، أصبحتُ صديقة للجميع، فأحبّوني، وصاروا يفتحون لي أبواب منازلهم. لكنْ، في لحظة بداية السباحة، ابتعد الجميع عنّي فجأة، كأنّهم يرفضونني، وصاروا يكرهونني. لأنّ للجميع توقّعات مسبقة، والجميع ينتظرون ماذا سيحدث بعد هذه السباحة. مع مرور اليومين، عُدنا كما كنّا. تحدّثنا، وبدأتَ النساء السباحة، والبنات فَرِحْن. لن أقول إنّي ذهبتُ بهدف التغيير، لكنْ هذا حدث تلقائياً، في النقاش وتبادل الأفكار. كنتُ أتحدّث معهم في أشياء لهم حقٌّ فيها، وأشياء مجرّد تخمينات، وتبدو لي غير حقيقية وغير صحيحة، ويُمكن التخلّي عنها.
(*) إذاً، عندما ذهبتِ للتصوير، هل فكّرتِ في ارتداء ملابس فيها قدر من التحفّظ، تقديراً لمشاعر الناس هناك؟ أم أنّ هذا لم يخطر في بالك، وارتديتِ ملابس عادية؟
طبعاً كنتُ أراعي مشاعر الناس، وأفكّر في ماذا يفعلون، وفي ظروفهم. لا مصارف في المكان، ولا إدارات وخدمات طبية. صحيحٌ أنّ التكنولوجيا الحديثة مُتاحة لهم، كالهواتف وأجهزة الكمبيوتر. لكنْ، هناك متسع من الوقت، ومللٌ كثير. أتكلّم عن تجربتي الشخصية. ليس بالضرورة أنْ يشعروا هم بالملل، لأنّ هذه حياتهم الطبيعية.
في الأشهر الثلاثة الأولى، كنتُ كسائحة. أعجبتني الطبيعة. لكنّ الأمر أصبح قاسياً عندما أمضيتُ هناك 3 أعوام. لا شيء نفعله. الناس يذهبون إلى المسجد، وإلى السوق مرّة واحدة في الأسبوع. فماذا نفعل طوال الأسبوع؟ نشاهد بعضنا بعضاً. لذا، لا بُدّ من أنْ تُغطّي نفسك. كلّ شيء يتمّ تغطيته. أنا عشتُ بينهم. 24 ساعة يومياً موجودةٌ بينهم. لا شيء جديد، ولا أناس جدد. إذا ارتديتُ زياً غير مناسب لعاداتهم وتقاليدهم، سيقولون: "أسماء غير جيّدة، لأنّها تعرّفت علينا ولم تحترم القبيلة". كذلك، عندما أخبرتُهم أنّ أمّي ولدَتْ هنا في الزاوية، اعتبروني منّهم، ووافقوا على التصوير.
(*) متّى قرّرتِ أنْ يُصبح الفيلم ثلاثية؟ في البداية، أردتِ فيلماً واحداً، والآن بات المشروع ثلاثة أفلام؟ متى وُلدَت فكرة الثلاثية، ولماذا؟
في البداية، كتبتُ فيلم "أم الحياة.. كذب أبيض"، لكنّي لم أنجح في تصويره، فأُصبتُ باكتئاب. كانت هناك ضغوط عليّ من المنتج المشارك، ومن داعمين آخرين، شاركوا في الإنتاج. كانوا يريدون صُوراً ولقطات فيديو في الـ"تريلر" الخاص بالفيلم، ولم أكن أملك شيئاً من هذا. توتّرتُ، وظللتُ أتساءل: "كيف سأقدّم الفكرة؟"، لأنّي لم أحبّ تحقيق فيلم كلاسيكي. كنتُ أكتب هناك، والكاميرا معي. فجأةً، قلتُ لنفسي: "مستحيلٌ أنْ أغضّ الطرف عما يحدث أمامي". ثم صدف أنْ كنتُ موجودة أمام مشهد موت الرجل، والجميع يلتفّون حوله. ثم سألني الشيخ: "من أنتِ؟". بعد أنّ عرّفته عن نفسي، قلتُ له: "سأحضر الكاميرا وأصوِّر. هل لديك مانع؟". لم يعترض. هكذا ولدت اللقطة الأولى.
(*) هذا يبدو في الفيلم الأول، "في زاوية أمي". فماذا عن الجزئين الآخرين؟
فكرة الثلاثية متأتية من حكايتي مع أمي، في "أم الحياة.. كذب أبيض"، إذْ أنّها لم تعطِني صورة حقيقية، بل صورة مزيّفة، وسلسلة أكاذيب. لذا، فكرتُ: لماذا لا أعود إلى الأصل والمكان اللذين جاءت أمي منهما، حتى تفرض ما فرضته في "كذب أبيض". فيلمٌ كنتُ أشتغل عليه لـ10 أعوام، ولا يزال في مرحلة ما بعد الإنتاج. أما "في زاوية أمي"، أو "بوستكارد"، فلم يكن الفيلم الذي كنتُ أعمل عليه، بل وُلِد في التصوير، وكان ضمن حكايتنا، أمّي وأنا، لكنْ في الوسط. "كذب أبيض" كأنّه حكايتنا، أمي وأنا، لكنْ في الوسط يأتي "في زاوية أمي"، حيثُ بدأتُ أتساءل: "من أين جاءتْ أمي بهذه المعتقدات التي حدثت معنا في قصّة "كذب أبيض"؟ ما هذا الوادي الذي ذهبتْ إليه للعيش فيه أعواماً؟ من هؤلاء الذين كنتُ أتغطّى أمامهم؟". الجزء الثالث، "أمي جحيمي الأبدي"، يعتمد على أنّ أمي صدّقت أنّها ممثلة، وأصرّت على التمثيل فيه.
(*) إذاً، سيكون الجزء الثالث روائياً؟
صراحةً، تعتقد أمي أنّه روائي، لكنّي أشتغل عليه كوثائقي. في أحداثه، تأتي لحظة التصالح والتسامح بيننا. "في زاوية أمي" يُعتَبَر كلاسيكياً. في "كذب أبيض"، هناك لحظات جنون في السرد، الذي يُمزّق الحدود بين الوثائقي والروائي. في الثالث، سأجمع الوثائقي بالروائي.
(*) هل كان سهلاً أنْ تحكي بصوتك في الفيلم؟ متى اتّخذت هذا القرار؟
لم أسجّل شيئاً بصوتي أبداً، كما أنّي لم أحبّ الظهور في الفيلم، ومع هذا فعلتُ الاثنين. ظهرتُ في لقطات عدّة. كنتُ أفكّر في أنْ يقرأ شخصٌ آخر التعليق، لأنّي لم أستخدم صوتي من قبل، ولم أكنْ أحبّ أنْ أظهر فيه. جاء قرار صوتي في مرحلة إعادة الكتابة، أي في المونتاج. كتبتُ خواطر، لكنّي لم أكنْ أثق بأنّي سأستخدمها في الفيلم. لم تكن هذه الخواطر مُصوّرة. كتبتُها عندما كانت إحدى الفتيات تحكي لي قائلة: "نحن نتخفّى وراء الجبال". كنتُ أعتقد أنّ حديث أم العيد كافياً. حتّى أنّها تحكي أحياناً من خارج الكادر، كأنّها تروي السرد. لكنْ، في المونتاج، اكتشفتُ أنّ هذا غير كافٍ. عندما راجعتُ أوراقي، تذكّرتُ أنّي كتبت الخواطر، من دون تصويرها، فكان الحلّ الوحيد أنْ أسردها بصوتي. لم يكن قراراً سهلاً، لأنّي لم أكنْ أحبّ الظهور بصوتي. كنتُ أشعر بالخوف. هذا سلاح ذو حدّين.
(*) هل شجّعك أحدٌ على توظيف صوتك، أم أنّ القرار لكِ؟
لم يساعدني أحد في ذلك. إنّه قراري، رغم أنّي، في "كذب أبيض"، لا يُمكنني توظيف صوتي. أما في "بوستكارد (في زاوية أمي)"، قلتُ: إذا كان الوثائقيّ من إبداعي أنا، فلا يُمكن أنْ أحكي جزءاً منّي بصوت شخص آخر. أين الذاتية في الموضوع، إذا طلبتُ من شخصٍ آخر أنْ يؤدّي التعليق الصوتي، ليحكي عنّي. قررتُ تقبّل نفسي وصوتي. اعتقدتُ أنّ هذا سيكون مقنعاً أكثر للمتلقّي.
من خلال ذلك، حقّقتُ أيضاً عملية إسقاط. فعندما تحكي أسماء قصّتها بصوتها، تظهر أم العيد في الصورة، ما جعلني أتسلّل إلى الفيلم في بعض المشاهد، كما في مشهد العُرس، حيث تظهر أسماء لأنّها كانت تتخيّل أمها. مع ذلك، الآن، لو خَيَّرتِني بين الأمرين فنياً، لن أستخدم التعليق الصوتي. المُدهش أنّ المشاهدين بكوا، وكانوا متأثّرين عند خروجهم من الصالة. كلّ مُشاهد يقرأ الفيلم بطريقته، وبشخصيته وخبراته. لم يكن هدفي أنْ أجعله يبكي إزاء الواقع المزري والفقر. لكنْ، هناك من تعاطف مع أم العيد، ومع علاقة الحب بين الأب المُقعد وابنته أم العيد، رغم الظروف الصعبة. إنّها علاقة ساحرة. أسرةٌ، علاقات أفرادها فيما بينهم تمسّ القلب، وأقوى من الفراق والفضول والملل.