يعود رمضان، فتطل أغانيه. بعض هذه الأغاني يصدر حديثاً، وسُرعان ما تسقط مُهملة ومتقادمة، مثل كثير من سابقاتها. أغانٍ قليلة ما زالت تُردّد منذ أجيال مع حضور الشهر المُقدس لدى المسلمين، أبرزها "رمضان جانا"، لمحمد عبد المطلب، ومن ألحان محمود الشريف. عدا ذلك، حاولَت أغان عديدة اللحاق بالركب الرمضاني، فكان مصيرها النسيان.
يمتاز هذا النوع من الأغاني، بمزيج لحني بسيط، يختلط فيه التعبير الشعبي مع الطابع الروحاني. إنّها بدرجة أساسية أغنية احتفاء بشهر يقدسه المسلمون. ولعل ذلك وراء اختيار الشريف مقام العجم لأغنية "رمضان جانا". فالعجم ذو شخصية مُبهجة، يعبر عن قدوم الشهر. على أنّ الشريف يضفي عليه طابعاً روحانياً، سواء في الجُملة الموسيقية على الوتريات، وكذلك في غناء عبد المطلب المُطعم بعُرب شرقية مميزة.
تتخذ الأغنية أسلوباً شعبياً أوضح على مقام الحجاز في لحن الأغصان. لكنّه متوتر بعض الشيء، ربما للتعبير عن الحنين. ثم ينفرج بتطريب مُبهج عند التحول على مقام الراست. ولعلّ الشريف بهذا اللحن، لم يترك لغيره من المُلحنين خيارات كثيرة للاقتراب منه. فكسر بشكل مُبكر طابع أغنية "وحوي يا وحوي" الشعبية. وخلق توازن بين الاحتفاء والتعبير الروحاني، بلحن يسهل استساغته بالنسبة لمستمعين كُثر.
ثمة ألحان أُخرى حظيت بنصيب من الذاكرة السمعية، لكنّ أهميتها أقل من لحن الشريف. فكلّ منها شكل موضوعاً مختلفاً، جعلها تحتفظ بمكانة معينة، بينما فشلت عشرات من الأغاني في الحضور في حيز لم تتسع مضامينه، سواء على مستوى النص أو اللحن.
لكن هل كان سقوطها سهواً؟ بمعنى أنها لم تكن تستحق ذلك؟ أو أنّها لم تأتِ بشيء مما يرعى الانتباه؟ سنحاول تتبع عدداً من أهم أغاني رمضان المنسية.
ساهم الفنان المصري الراحل محمد رشدي في عدد من تلك الأعمال، بما فيها أغنيتان من ألحان حسين فوزي. ففي أغنية "يا بركة رمضان"، يصيغها مُلحنها على مقام أغنية عبد المطلب، عجم الفا (Fa)، مضفياً عليها أسلوباً شعبياً يلائم أسلوب رشدي. لكنه يبحث عن استعارة مُباشرة للفرح، بدلاً من تعميقه في روح اللحن كما سابقه، فيجعل الزغاريد تُصاحب الأغنية، خصوصاً في المذهب. هذا التلفيق لم تمحُه تلوينات شبه موالية في أداء رشدي.
في الأغنية الأُخرى "رمضان الخير هل علينا" يعتمد الملحن على صيغة لحنية مألوفة، بتوظيف جمل موسيقية راقصة، تتماشى مع أساليب الغناء الشعبي المزدهرة في السبعينيات المُغلفة بطابع شرقي، طغى عليها مقام الكُرد. ونفس الشيء بالنسبة للغناء، فيصطبغ لحنه بمزيج شرقي وشعبي، يستدعي التمايل. هكذا، انتقل اللحن الرمضاني من الاستعارة الروحانية في تجسيد الفرح، إلى طابع تغلبه الحسية.
غلب على بعض أغاني رمضان أساليب لحنية مأمونة سبق لها النجاح، من دون إجراء أي مُعالجة لتطويعها بروح الشهر، أو أنها لم تحدث فرقاً يمنحها البقاء في الذاكرة العربية.
وأغنية عائشة حسن "رمضان رمضان" على مقام الكُرد، إحدى الشواهد على هذا المنحى؛ إذ يصعب التفريق بين لحنها، وكثير من ألحان الخمسينيات والستينيات الهامشية. يستهل القانون ضربات تجاوبها الكمانات، لتصبح هي السائدة، في تعبير يفتقر للروحانية. ويبدو التصرف العام في الغناء كأنّه مُستهلك من أسلوب تلك الحقبة العاطفية، فلا يمكن التفريق بينه وألحان أُخرى.
كان اللحن الرمضاني مُستباحاً لفكرة الـ"بروغرام" أو تغطية مساحته تلفزيونياً وإذاعياً. فظهرت عشرات الأغاني والأوبريتات التي يعود تداولها في الهامش، من دون مزاحمة لحن رمضان الأكثر ثباتاً بصوت عبد المطلب ولحن الشريف.
ومثلاً وليس حصراً، حاول عدد من الأوبريتات توظيف ثيمات بارزة، مثل لحن "وحوي يا وحوي" لأحمد مُبارك. كما هو الحال في أوبريت "أفراح رمضان" فكانت الثيمة القديمة مع مقامها الهُزام، ليوظفها مُلحن الأوبريت، سيد إسماعيل، في مطلع الجملة الموسيقية، وكذلك أداء كورس الأطفال. جانب آخر استغله الأوبريت، هو حضور عبد المُطلب نفسه بين مجموعة من الفنانين. لكن اللحن أخفق بوضوح من ناحية البناء الدرامي. بخلاف حضور نسبي للتعبير الدرامي عند استهلالة عبد المطلب برمضان كريم، ثم خطابه للأولاد عن الفوانيس، رغم أن صوت الأخير برزت فيه عوامل الكِبر.
يعود سيد إسماعيل في أوبريت آخر، بنسق تطغى عليه العشوائية، في فقرات أبرز ما يمكن مُلاحظته فيها هو تلك الفوضى اللحنية التي لا تنم عن مضمون موحد. فيأتي عمل "رمضان كريم"، كما لو كان مجموعة أغان مختلفة، يتضمن بعض أجزائها فقرات أهازيجية أو دينية، وبدرجة أقل استعراضية.
تبدأ جملة موسيقية بسيطة على مقام الهُزام، هي نفس مطلع الغناء الذي يؤديه محمد رشدي في "حبيبي يا رسول الله". ولعلّ المغزى بتوظيف إيقاع من الدفوف، هو استحضار الهوية الدينية، والترحيب برسالتها. وبدا واضحاً أن الفقرات الغنائية اعتمدت على فواصل غالباً يستهلها الكورس. ومن الطابع الديني إلى غناء شعبي، يحاول خلق أجواء رمضان المحتفية بالزينة وبعض عاداته. فيرتدي صوت سعاد مكاوي طابعا شعبيا مُختلطا بألحان الريف المصري. كما أن دلالته تلك المنسوجة بفرح راقص على لحن المذهب، يُذكرنا بألحان تصاحبها راقصة شعبية. فيما لحن الأغصان يتخذ منحى عاطفياً بروح الريف.
وبعد إشاعة تلك الأجواء، يأتي الجزء الخاص بالوجبات والأكلات الشائعة في رمضان. وتنقسم إلى ثلاث فقرات؛ تبدأ بوجبة الفقير التي لا تنسى تشجيعه على تساوي وجبته من الفول المدمس بلذة اللوز المقشور، فيكون الغناء شعبيا على غرار أسلوب شكوكو في غناء المونولوج.
وبتعبير مُباشر، تنتقل الفقرة على مقام الكُرد بأداء كورس رجالي، في منحى بعيد، مُجسداً خللاً في البناء اللحني. فيأتي الغناء كأنه منتزع من فقرة تُحاكي أسلوب الفالس، مشوهة بمصاحبة الفالس. والحديث عن الحلويات، الكنافة المُطعمة بلوز مقشور والقطائف. فاللحن البراق أراد نقل صورة التناقض الاجتماعي، وإن بلون من الفرح مختلف.
ثم يأتي دور اللبن والزبادي على مقام البيات، وتحاكي أصوات باعة اللبن بطبيعتها السوقية؛ أي مساواة حتمية بين طبقات مُختلفة في مائدة رمضان، تؤكدها استعادة ثيمة لحنية من الكنافة والقطائف، لكن في ترديد اللبن والزبادي.
وختاماً، يتم استعادة الفقرة الدينية، ويستهلها مقام الراست باستعراض أشكال من الصلوات الشائعة في رمضان، مثل صلاة التراويح، وأنماط من الدعاء. وتستمر الاستعارات من ثيمة صوفية؛ "الله حي". ويستمر التشويش في الحبكة اللحنية باسترجاع المقام الرئيسي، الهُزام.
تعود الاستعارة الصوفية بشكل أكثر دروشة في أوبريت "رمضان في الحسين". لاحقاً، يُعلن المُلحن المصري عمار الشريعي حضوره في هذا النوع في أوبريت إذاعي بعنوان "هل هلالك يا رمضان". لكنه يقترح طابعاً مألوفاً في شارات الفوازير الرمضانية. فالأغاني تعود بين فقرات أدائية لأصوات مُمثلين، بتغيرات مقامية مُختلفة.
اعتمد الملحنون على عناصر مأمونة في هذا النوع من الأغاني، لكنها افتقرت إلى محتوى جذاب، أو أنها ابتعدت عن الفرح الوقور كما هو في أغنية "رمضان جانا". بينما ديمومة أغنية "أهو جه يا أولاد" للثلاثي المرح، على صلة بموضوعها الموجه للأطفال. ولنفس الفرقة النسائية، هناك أغان لم تنجح، مثل "يا طالع الشجرة"، حيث تؤدّى بحماسة تخلط بين النشيد وأغنية الـ"بروغرام".
تعود أغنية عبد المطلب إلى عام 1943، وسبقتها "وحوي" بعقد. لكن عُرفاً طغى على أغاني رمضان، نقلها من الحالة الوجدانية إلى الـ بروغرامية، أو أنها اقتصرت على أنماط من الابتهالات الدينية التقليدية المسموعة في نطاق ضيق. ويمكن اختزال براعة لحن الشريف لعبد المطلب، في بناء الجملة الموسيقية؛ إذ يخلق فيها تركيب لعجم الفا، يتقارب إلى حد ما مع الحجاز، من خلال تحويل درجة الصول على الدياز، والبدء من نغمة اللا مع السي بيمول ثم الصول دياز والانتهاء به. وهو مستهل جملة الأغصان على مقام الحجاز.
غير أن هذا الأسلوب المُتشح بروحانية، انتقل إلى أشكال حسية، وضاعت شخصيته الوقورة، بدءاً بالمضمون الـ بورغرامي، ثم تبعتها مضامين البوب حديثاً. وساهم ذلك في تدهور هذا النوع من الغناء. مع أن مضامينها قابلة لأن تُصبح مجالاً واسعاً للابتكار اللحني، بعيداً عن استهلاكه في خفة لحنية شائعة؛ فاللحن الذي حفظ ماء وجهه محمود الشريف، كان السنباطي هو المُلحن الأنسب له بصيغه الوقورة، حتى في تجلي الفرح، فنزوعه الروحاني يصطبغ بصوفية تنبذ الدروشة والاستخفاف.