أفلامٌ عدّة، مُشارِكة في مسابقة الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، تنال جوائز مختلفة. أفلامٌ تمتلك متشابهات عامة في البُنية الدرامية والتساؤلات الذاتية: حضور أكبر للمرأة؛ بحثٌ عن منفذٍ لخلاصٍ منشود إزاء مآزق وانكسارات؛ سعي فردي إلى تحديد الهوية الجنسية، عبر أسئلة الحياة والعلاقات والجسد والبيئة الحاضنة.
كلّ فيلمٍ قابلٍ لقراءة نقدية مستقلّة. المقارنة بينها منبثقة من الجوائز نفسها، فبعض الأفلام غير مستحقٍّ جائزة، نسبةً إلى أفلامٍ أخرى، مشاركة في المسابقة نفسها، غير فائزة بشيءٍ، رغم امتلاكها جمالياتٍ في النصّ والإخراج والصُوَر، كـ"سوزومي" (2022، تحريك)، للياباني ماكوتو شينْكاي ("العربي الجديد"، 27 فبراير/شباط 2023). هذا يؤكّد، مجدّداً، أنّ الجوائز نتاج أمزجة أعضاء لجان التحكيم، وأهوائهم وميولهم السينمائية والثقافية والفكرية، لا أكثر.
مثلٌ أول: "حتى آخر الليل" (2023)، للألماني كريستوف هوهْخُويْسلر (الدب الفضي لأفضل تمثيل في دور ثانٍ، للممثلة تِيا إيهْر). رغم حِرفية اشتغاله، المنضوي في النوع البوليسي (الطاغي على مسائل أخرى، كالعلاقات المثلية والحبّ والخيبات)، يحثّ اختياره لمسابقة مهرجان مُصنّف فئة أولى على سؤال مغزى هذا الاختيار، خارج اعتبار يكاد يكون وحيداً: الحاجة إلى أفلامٍ ألمانية، في مسابقةٍ خاصة بمهرجان دولي يُقام في برلين. نَفَسه السينمائي تجاريّ، أكثر من كونه "صالحاً" لمهرجان، وإنْ يكن قولٌ كهذا غير ثابتٍ ونهائيّ. وضعه في مسابقة تضمّ 19 فيلماً، معظمها أهمّ منه بصرياً وفنياً ودرامياً واشتغالات تقنية، محيّرٌ، والحيرة تتضاعف مع فوزه بجائزة، علماً أنّ تيا إيهْر تؤدّي دوراً متماسكاً في موقع الشخصية ومكانتها، قياساً إلى المحيطين بها، والأجواء المفروضة عليها في البحث عن دلائل لإدانة تاجر مخدّرات.
هذا ينسحب على "20 ألف نوع من النحل" (2023)، للإسبانية إسْتِباليث أورِّسولا سولاغُرِن. أهمية الموضوع/الحبكة/النواة الأصلية للنصّ غير متوافقة مع ثرثرة بصرية، يقع فيها السرد. فوز صوفيا أورتِرو (8 أعوام) بـ"الدب الفضي لأفضل تمثيل" يتلاءم وأسلوب أدائها شخصية لوثيا، المراهقة/المراهق الراغبة/الراغب في أنْ تكون/يكون فتاةً، وهذا يطرح أسئلة على نمط التربية والتواصل والعلاقات بين أفراد العائلة، مع بداية تفكّك الرابط بين الوالدين.
النواة الدرامية، بأسئلتها وكيفية قراءة الأسئلة بين أمٍّ وخالتها ولوثيا تحديداً، تعاين أحوالاً فاعلة في اجتماع بشريّ. غير أنّ مدّة الحكاية السينمائية (125 دقيقة) تُنتج مللاً إزاء تكرارٍ وإطالة غير نافعتين، درامياً وسردياً. الجائزة الممنوحة لصوفيا أورتِرو تبدو كأنّها تُحيِّدُ الفيلم، لما فيه من ثقوبٍ درامية وجمالية، لن تحول دون تنبّه إلى مسائله وأسئلته.
المرأة حاضرة أيضاً في "بالكاد يعيش" (ترجمة حرفية للعنوان البرتغالي Mal Viver، أو "حياة سيئة" بحسب العنوان الإنكليزي الدولي)، للبرتغالي جُوَاو كانيزو، الفائز بـ"جائزة الدب الفضي ـ لجنة التحكيم". 3 أجيال في فندقٍ/مطعم يتداعيان، مادياً وفضاءً وحياةً. نساءٌ، تحاول كلّ واحدة منهنّ إيجاد منفذٍ لخلاصٍ معطوب. القسوة سمة أفرادٍ، والوجوه، رغم التفاوت الواضح في أعمارها، متشابهة بحجم القسوة وسطوتها وتأثيراتها، كأنّ الممثلات يتنافسن في كيفية إظهارها والتعبير عنها بنظرة أو حركة أو صمتٍ، والصمتُ يوحي، غالباً، بانقطاعٍ عن واقع ومكان وأناس.
فيلمٌ قاسٍ، بسبب إيقاعه الهادئ/البطيء، المتناقض وحجم الغليان الحاصل في نفوسٍ وأرواح وأجسادٍ، وبعض الأجساد توّاق إلى ممارسة الجنس، لما في الممارسة من تنفّس وتحرّر ولذّة، وإنْ مؤقّتاً. الانهيار واضحٌ منذ لحظة لقاء الأمّ بابنتها، القادمة إلى الفندق/المطعم بعد وفاة والدها، رفقة جدّتها لأمّها وخالتها. الإقامة في الفندق مفتوحة على ثقل ماضٍ وتمزّق علاقات وخيبات في مشاعر وارتباطات. مصارحةٌ مرتبكة، تؤدّي إلى مزيدٍ من انكشافٍ أمام الذات والآخر، والنهاية محمّلة بالأقسى من كلّ قسوة في أيام العيش على حافة الموت (هناك فيلمٌ آخر للمخرج نفسه، بعنوان Viver Mal، معروضٌ في برنامج Encounters، في الـ"برليناله الـ73" أيضاً، يروي حكاية الفندق/المطعم من وجهة نظر الزبائن).
المرأة أيضاً محورٌ أساسيّ في "سماء حمراء" (Roter Himmel، إنتاج 2023)، للألماني كريستيان بتزولد (الدب الفضي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم). كاتب روايةٍ واحدة، يواجه مأزق كتابة الثانية، فيختار منزل صديق له، بعيداً عن صخب المدينة، لإكمال نصّه المعطّل وغير المنجز كاملاً. والدة صديقه تنسى إخبارهما أنّ شابّةً تُقيم فيه، واللقاء بها يُزيد من توتّر الكاتب، وعلاقتها الجنسية بصديقها تُثير نوعاً من غضبٍ فيه، قبل انكشاف حبّه لها منذ اللحظة الأولى.
يترافق هذا واندلاع حرائق في منطقة قريبة، وتعارف بين صديق الكاتب وعشيق المرأة، ووصول الناشر. مسائل مطروحة في نصٍّ، يروي سِير أفرادٍ يواجهون صخب الحياة والعلاقات والتمزّقات والرغبات، في مكانٍ محاصر بالنار، التي تلتهم أناساً وأشجاراً. لقطات عدّة تمتلك رمزيّتها، قبل أنْ تتوضّح معالمها لاحقاً، من دون مباشَرةٍ.
8 جوائز تمنحها لجنة تحكيم المسابقة، برئاسة الأميركية كريستن ستيوارت (7 أعضاء، بينهم 5 نساء) لـ8 أفلامٍ، بينها 3 من ألمانيا، ثالثها "موسيقى"، الفائز بـ"الدبّ الفضي لأفضل سيناريو"، لأنْغِيلا شانْإليغ، مخرجته أيضاً: غلبة الصمت في بداياته تتحوّل إلى كلامٍ قليلٍ، وموسيقى/غناء أقلّ. لقطات متتالية تبدو كأنّها مقبلةٌ من أساطير قديمة، ومسارات فردية تُصبح مرويات لاحقة عن الأسئلة المعتادة في عالم اليوم.
التعليقات النقدية المختصرة تقديمٌ لأفلامٍ قليلة في مسابقةٍ دولية. الجماليات تحرِّض على مزيدٍ من نقاشٍ نقدي، ففي كلّ فيلمٍ (رغم تفاوت المستوى والأهمية) ما يُثير متعة القراءة والتساؤل.