ألان ديلون... رحيل "الساموراي" الفرنسي

18 اغسطس 2024
ألان ديلون في بريطانيا عام 1972 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ألان ديلون، الممثل الفرنسي الشهير، بدأ مشواره الفني في نهاية الأربعينيات وتميز بوسامته وحرفيته، مما جعله نجمًا لامعًا في السينما، حيث عمل مع مخرجين كبار.
- حياته الشخصية كانت مليئة بالتحديات والعلاقات المعقدة، بما في ذلك ارتباطه بعوالم سفلية ونزاعات عائلية، ومشاكل قانونية دفعته للانتقال إلى سويسرا.
- كتاب "أسرار ديلون" يكشف جوانب خفية من حياته، بما في ذلك مشاريعه التجارية، ورغم الجدل، يبقى ديلون نجمًا لا يُنسى في تاريخ الفن السابع.

إذاً، يغادر ألان ديلون حاملاً شيخوخة صعبة (كأيّ شيخوخة أخرى)، وتاريخاً حافلاً بغليانٍ، في الحياة والفن والعلاقات، وبعض تلك العلاقات مرتبطٌ بعوالم سفلية، متمثّلة بعصابات سيكون ضيفاً مُكرَّماً عند زعمائها. ممثلٌ يُتقن إغراء كثيرين وكثيرات، لن يتردّدوا لحظةً عن مُشاهدة كلّ جديد له، في السينما والتلفزيون والمسرح، ولن يتغاضوا عن أي خبرٍ عنه، في الفن والمجتمع والعشق.
يُقال إنّ بداياته السينمائية حاصلةٌ نهاية أربعينيات القرن الـ20. لكنّ الكمّ الهائل (المترافق ونوعية مُثيرة لتنبّه ومتابعة ومعاينة ونقاش، ولمتعة مشاهدة أيضاً) يصعب اختزالها بكلمات. لائحة طويلة من الأعمال، وأسماء كثيرة، في الإخراج والتمثيل أولاً، تمنحه سطوعاً في المشهد التمثيلي، وتجعله نواة إبداعٍ، يُصنع بمهنيّة عالية. هذا لاحقٌ على خبرات ميدانية، أبرزها خدمته العسكرية، وفيها تجربة حربٍ (الهند الصينية). كأنّ اختباراً كهذا ضروري، ففي أفلامٍ له ملامح منها، سيُضيف إليها جهداً يبذله كي يجعل الشخصية السينمائية مرادفاً لحياةٍ وانفعال.
هنري فرنويل ولوتشينو فيسكونتي وألان كافالييه ورينيه كليمُن وجوليان دوفيفييه ولوي مال وجوزف لوزي وجاك دوري، وصولاً إلى جان ـ لوك غودار وباتريس لوكونت وبرتران بلييه وغيرهم. أسماء سيكون معها ممثلاً، وبعد التمثيل في أفلامٍ لأصحابها سيصقل نجوميته، معتمداً على وسامةٍ وحِرفية، ولعلّه سيقرّر لاحقاً بأنّ التمثيل مهنة لا أكثر، والخبرات المتراكمة كفيلةٌ بجعله صادقاً وشفّافاً، وإنْ من دون جهدٍ.
مسائل عدّة يُمكن تناولها في كتابةِ وداعٍ لممثل، اسمه ألان ديلون. عند شيوع النبأ (18 أغسطس/آب 2024)، تظهر هذه المسائل، وغالبيتها غير معنيّة بالسينما. فرغم أنّ لـ"الساموراي" (فيلمٌ لجان ـ بيار ملفيل، مُنجز عام 1967) حضوراً بهيّاً وفاعلاً في تاريخ الفن السابع، الفرنسي تحديداً، يمتلك الراحل، في الوقت نفسه، تاريخاً شخصياً يتميّز بعلاقات له مع مافيات وأفرادٍ متّهمين بجرائم قتل، ويتميز أيضاً بنزقٍ كبيرٍ فيه إزاء آخرين وأخريات، أبرزهم نزاعٌ حاصلٌ مع ابنه أنتوني في فترة قديمة، إضافةً إلى المواجهات القانونية أخيراً بين أبنائه الثلاثة، أنوشكا (1990) المتّهمة بالسيطرة عليه وعلى ثروته، وأنتوني (1964) وألان ـ فابيان (1994). فهو، في أشهرٍ طويلة سابقة على رحيله، مُصابٌ بشيخوخة تُبعده عن المشهد العام.
ماذا عن تهرّبه من دفع الضرائب، ككثيرين وكثيرات غيره، إذْ إنّ قوانين الضرائب في بلده قاسيةٌ على أثرياء، ينتقلون إلى دولٍ أخرى لعيشٍ آمنٍ فيها، بدلاً من إنفاق أموالهم في بلدانهم؟ فالممثل الثري ينتقل إلى سويسرا، والحجّة متعدّدة المعاني: رغبةٌ في راحةٍ تؤمّنها عزلة واستقالة من عملٍ وحياة عامة؛ انكفاء عن عالمٍ، يُدرك الممثل تفاصيل كثيرة في خفاياه، فيريد ابتعاداً عنها يُشبه، إلى حدّ كبير، اغتسالاً وتطهّراً، أو مجرّد انكفاء وابتعاد لا أكثر؛ هروبٌ بأموالٍ يجمعها في سنين مديدة، لن تكون السينما وحدها مصدرها، فله في أعمالٍ تجارية مصادر أخرى، كالعطور والسجائر، وأنواع قليلة من الخمور (كونياك، شامبانيا، بيرة)، إلى ساعات ومجوهرات وأزياء، وأحد هذه الأعمال (العطور) سبب نزاعه مع ابنه أنتوني، فتكون النتيجة لصالح الأب.
في حكاية نزاعه مع أنتوني، تنكشف قسوة ألان ديلون غير المُحتَملة، لرجلٍ غير آبهٍ إلّا بنفسه ومصالحه. أو ربما هكذا يوحي سرد الحكاية، لا مضمونها فقط. وهذا، رغم ثقله الضاغط، غير مانعٍ ظهور جانبٍ عاطفيّ، كأنّ في الرجل نزاعاً داخلياً، أو ربما نوعاً من مجابهة الذات في لحظاتٍ مختلفة. 
لكنّ ألان ديلون نجمٌ يمتلك أجمل مفردات النجومية، لتمتّعه بوسامةٍ تساهم، مع حِرفية أداء، في صنع هذه النجومية. وسامةٌ لن تحول أبداً دون براعة اشتغال، والشاشة الكبيرة (له في الشاشة الصغيرة والمسرح أعمال متفرّقة، كما في الموسيقى والغناء) تكاد تعجز عن استيعاب ذاك المزيج البديع بين وسامةٍ وحِرفية أداء. ومشاغله الأخرى، المروية في كتاب "أسرار ديلون" ("فلاماريون"، 2000) لبرنار فيولي، الذي يجهد الممثل في منع صدوره من دون طائل، تُشكِّل جانباً من سيرته، غير متمكّن من حجب الأهمّ فيها. أمّا "مغامراته" النسائية، فمعروفةٌ بمجملها، والأكثر طغياناً يتمثّل بحبّه (أيكون الوحيد الأصدق والأجمل في حياته كلّها؟) لرومي شنايدر (1938 ـ 1982)، الذي يُقال دائماً إنّه (الحبّ) باقٍ فيه إلى النهاية.

كتابٌ كهذا يكشف جوانب غير راغبٍ صاحبها في كشفها. عملٌ صحافي بامتياز، يدفع من يُنجزه إلى "عالمٍ سفلي" يغوص فيه الراحل إلى أعمق أعماقه، من دون أنْ يبتعد الكاتب نفسه عن مهنة الممثل وتفاصيلها، باختراقه كواليس صناعة السينما (والأعمال الأخرى)، ليروي سيرة رجل، سيغلبه الممثل الذي فيه طويلاً. لكنْ، أي فائدة تكمن في سرد أفلامٍ له، وتحديد مخرجين وممثلين وممثلات يكونون له ومعه مفرداتٍ حيّةً وحيوية في صُنع نتاج سينمائي، يستحيل التغاضي عنه، أو نسيانه؟ أي فائدة يعثر عليها مهتمّ ومهتمّة، فاللائحة طويلة، والمهمّ والأهم فيها غير قليل؟ شراكته مع جان ـ بول بلموندو (1933 ـ 2021)؟ انخراطه في إنتاجٍ وإخراج؟ ماذا يعني ذكر أسماء ممثلات ونساء، لهنّ عنده مكانة، وله عندهنّ أكثر من مكانة؟
كلّ كتابةٍ في وداع راحل ـ راحلة، وبعض الكتابة رثاء، تعجز عن استيعاب السيرة كلّها، المهنية والحياتية. هذا معروفٌ، وقوله مُكرّر. غير أنّ بعض الراحلين ـ الراحلات، وألان ديلون أبرزهم، يُثير دائماً حماسة استعادة تاريخ، وإعادة مشاهدة أفلام، وعودة إلى كتبٍ تروي نتفاً من تلك السيرة.
رحيل "الساموراي" موجع، رغم توقّعه. والكتابة، أيّاً تكن مادتها وحجمها، تبقى أقلّ من أي قدرةٍ على إيفاء نتاجاته التمثيلية (على الأقلّ) حقّها النقدي والتاريخي.

المساهمون