أن يكون الكلام فعلاً أيضاً

18 أكتوبر 2024
نادية لطفي وياسر عرفات ومقاتلين فلسطينيين في بيروت 1982 (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نادية لطفي تجسدت كرمز للفعل الأخلاقي في بيروت عام 1982، دعماً للمقاومة الفلسطينية وسكان المدينة المحاصرين، مما يعكس حبها العميق للمقاومة والمدينة.
- الحب كدافع للمقاومة يظهر في مواجهة الجرائم الإسرائيلية، حيث يُعتبر حضور نادية لطفي تعبيراً عن الالتزام، رغم التساؤلات حول فعالية الحب في مواجهة العنف المستمر.
- السياق الثقافي العربي يشهد غياب مواقف أخلاقية ملموسة، واستعادة صورة نادية لطفي تهدف لتذكير العاملين بأهمية الفعل الفردي العملي ودعم المقاومة بعيداً عن الخوف من الأنظمة.

 

صورةٌ تُلحّ: نادية لطفي في بيروت الغربية، زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982). هذا فعلٌ أخلاقيّ، يُترجَم ميدانياً للوقوف (عملياً لا نظرياً فقط) مع المقاومة الفلسطينية، ومع بيروت وأبنائها/بناتها في حصار وحشيّ، سيكون تمهيداً لوحشيّات إسرائيلية، آخرها إبادة راهنة في فلسطين المحتلّة ولبنان. تمهيدٌ فتّاك، قبل أنْ يصرخ فاعلُه بعدم إطلاق الرصاص، لأنّ المحتلّ يريد مغادرة المدينة.

انفعالٌ يدفع إلى فعلٍ كهذا، وجرأةٌ منبثقةٌ من قناعة والتزام. أرى الصورة (إنّها صُور عدّة لها مع ياسر عرفات ومقاتلين فلسطينيين وغيرهم)، وأشعر بصدق القول السابق. أيُمكن إضافة إحساسٍ آخر، سيكون الحبّ؟ حبّ المُقاوَمة والمدينة. حبّ الناس. حبّ مشاركة متألمٍ ومختنق ومُحاصَر لكنّه مُقاوِم، رغم أنّ مشاركة فردية كهذه تبقى دعماً متواضعاً، يعكس قناعة والتزاماً، ومصداقية ذات في قناعة والتزام. الحبّ؟ أتذكّر قولاً آخر: "لا يستطيع أيّ مُقاتلٍ أنْ يُواجِه آلة حربية كالتي يمتلكها الإسرائيليون، ما لم يكن هذا المُقاتل يملك قضيّة عظيمة يُقاتل من أجلها. حبُّنا الكبير لوطننا أكبر من كُرهنا لعدوّنا. الحبّ دافعنا لا الكراهية" (مُقاتل فلسطيني في سبعينيات القرن الـ20، يظهر في لقطةٍ من فيلمٍ تسجيلي قديم، يستعيدها مُهنّد اليعقوبي في فيلمه "خارج الإطار، ثورة حتى النصر"، 2016).

هذا نوعٌ أساسيّ من حبّ يُحصّن المُقاوِم/المُقاوِمة إزاء جُرمِ عدوٍّ، يتجاوز كلّ قيدٍ ومُحاسَبة في أفعاله الجُرمية. حبٌّ نابعٌ من قناعةٍ والتزامٍ. أيكون حضور نادية لطفي في بيروت حينها تعبيراً عن حبٍّ كهذا أيضاً؟ لكنْ، هناك حرب إبادة حالية أعنف من زمن الاجتياح ذاك، رغم أفعال جُرمية للوحش الإسرائيلي حينها (مجزرة شاتيلا وصبرا، بين 16 و18 سبتمبر/أيلول 1982، امتدادٌ لأفعاله الجُرمية، لكنْ بأيدي مليشياويين مسيحيين لبنانيين). الآن، هناك إبادة غير محتاجة إلى تنظيرٍ، لكونها واقعاً مُعاشاً. فهل يصلح الحبّ، حبّ مُقاوَمة ومدينة، في مواجهة "فكّ مفترس" (ترجمة غير حرفية لـJaws لستيفن سبيلبيرغ، 1975)؟

تساؤلات، لا أكثر. لكنّ صورة نادية لطفي في بيروت الاجتياح الإسرائيلي تدفع إلى تساؤلات أخرى، تُختَزل بالحاصل في فنّ وثقافة عربيّين، غالبية العاملين/العاملات فيهما مُنفضّةٌ كلّياً عن أيّ موقفٍ أخلاقي (كلامٌ على الأقلّ)، رغم اقتناعٍ ذاتي بلا جدوى كلامٍ غير مُترجم إلى فعلٍ، وأفعال كثيرة يُمكن لهؤلاء ممارستها في زمنٍ كهذا. سينمائيون/سينمائيات لبنانيون قليلون يجهدون في تأمين مستلزماتٍ أولية لنازحين ونازحات، يُقيمون خارج قراهم ومدنهم.

هذا أهمّ بكثيرٍ من أي كلامٍ يقول موقفاً أخلاقياً، مع أنّ اتّخاذ موقفٍ أخلاقيّ، وإنْ عبر كلامٍ، مطلوبٌ وضروري. انفضاض غالبية العاملين/العاملات في فنّ وثقافةٍ عربيين عن فعلٍ ميداني، زمن حرب إبادة، ظاهرٌ. لكنّ ظهوره غير كافٍ لتأكيد انفضاضٍ فعليّ، فلعلّ بعض هؤلاء فاعلٌ ميدانياً بصمت، وهذا أجمل من أي شيءٍ آخر، إنْ يحصل فعلياً، لأنّ الابتعادَ عن استعراض إعلاميّ أساسيٌّ في فعلٍ كهذا.

استعادة صورة نادية لطفي في بيروت الاجتياح غير هادفةٍ إلى تنمّرٍ على تلك الغالبية "المختفية" (!)، لأنّها تبقى تذكّراً شخصياً لفعلٍ فرديّ عمليّ. استعادةٌ لن تُطالب عاملين/عاملات في فنّ وثقافة عربيّين بفعلٍ شبيهٍ بفعل لطفي حينها، فالحرب الإسرائيلية الحالية طاحنةٌ، والانشقاقات في الحيّز الجغرافي المُقيم في حرب الإبادة تلك بشعة وقاسية رغم واقعيّتها.

لكنْ، ألن يكون "سهلاً" عملٌ غير مُحتاجٍ إلى زيارة ميدانية لمدنٍ وقرى وبلدات تُبَاد، يتمثّل بموقف أخلاقي أولاً، وبإيجاد وسائل عملية لدعمٍ مادي مباشر (المادي هنا غير معنيّ أبداً بالمال)؟ أمْ أنّ بطش الأنظمة العربية الحاكمة غير خاضع لقيدٍ ومُحاسَبة، ما يُثير خوفاً في نفوس وتردّداً في عقول من خطوة عملية كهذه؟

"انبهار" عاملين/عاملات في فنّ وثقافة عربيّين بأنظمة حاكمة في بلدانهم غير مفهوم وغير مُبرّر، وإنْ تكن بلدانهم هذه محكومةً باختناق وترهيب وبطش. تذكّر المرحلة الناصرية مع فنّ وثقافة يقول إنّ هناك رافضين ومتمرّدين لبطش النظام، رغم قلّة عددهم. الانبهار مقصودٌ غالباً، لأنّ المُنبِهَر يتماهى مع شخصيات نافذة يظنّ أنّها تحميه وتدعمه وتدافع عنه، إنْ يبقى بوقاً لها.

المساهمون