بعد قرابة العام على بدء الغزو الروسي للبلاد، تتّجه أوكرانيا لاتخاذ مزيد من الخطوات لإلغاء ومحو كلّ ما هو على علاقة بروسيا والثقافة الروسية، بحسب مجلة ذا إيكونوميست.
في مصنع لإعادة التدوير في ضواحي كييف، على بعد مسافة قصيرة بالسيارة من موقع تحطم طائرة هليكوبتر أودى بحياة وزير الداخلية الأوكراني و13 شخصاً آخرين قبل أسبوع، تقوم مجموعة من عمال الفرز، معظمهم نساء في منتصف العمر، بتمزيق مئات الكتب الروسية.
يتمّ تمزيق كتاب ليو تولستوي "الطفولة والمراهقة والشباب" لأجزاء مختلفة، سيتحوّل الغلاف إلى فنجان قهوة أو كرتونة بيض تولستوي، فيما سيعاد تدوير صفحاته لاستعمالها في كتبٍ باللغة الأوكرانية، أو كورقٍ حمام رخيص. تتكرّر هذه العملية مع كتب مختلفة: مجموعة مختارة من قصائد ماياكوفسكي، سيرة بوشكين، وروايات دوستويفسكي، وغيرها.
منذ استيلاء روسيا على دونباس وشبه جزيرة القرم في عام 2014، تزايد النفور والرفض للثقافة الروسية في أوكرانيا، لكنّه لم يصل أبداً إلى الحدّ الذي صار عليه اليوم، بعد مرور قرابة عامٍ على بدء الجيش الروسي غزوه للدولة الجارة.
بحسب "ذا إيكونوميست"، لوقتٍ طويل، كان رفض الثقافة الروسية أو تقبّلها مسألةً شخصيةً، يقرّرها كلّ فردٍ بنفسه، ولم يكن جزءاً من سياسة الحكومة الأوكرانية، التي تدير حتى الآن شؤون الملايين من المواطنين الذين يتحدّثون الروسية. لكن، اليوم، تقوم السلطات المحلية في أماكن كثيرةٍ من البلاد بنزع تماثيل وتغيير أسماء شخصيات روسية أو سوفييتية.
في عاصمة مقاطعة ترانسكارباثيا، أوزهورود، غربي البلاد، أزيلت النجوم الحمراء عن شواهد قبور الجنود السوفييت الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية. واختفت التماثيل النصفية لبوشكين من ساحات عشرات القرى، فيما نزع تمثال كبير للإمبراطورة الروسية كاترين الثانية من مدينة أوديسا في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وقبل أيامٍ قليلة، وتحديداً في 27 يناير/كانون الثاني الحالي، أعلنت "كييف موهيلا"، وهي واحدة من أقدم الجامعات في كييف، حظر الحديث باللغة الروسية داخل حرمها، قبل أن يتراجع رئيسها في وقتٍ لاحقٍ عن هذا القرار.
وصل رفض الثقافة الروسية إلى السوق الأدبي أيضاً. بعد أن فتحت مكتبة سيايفو البلدية أبوابها في كييف بعد 3 أشهر من الإغلاق الاضطراري عند اندلاع الحرب، توصّل المشرفون عليها مع بعض الزبائن إلى فكرةٍ تقضي بجمع كل الكتب الموجودة باللغة الروسية وإعادة تدويرها، والتبرع بعائداتها لجمعية خيرية تشتري الملابس والمعدات للقوات الأوكرانية.
ومنذ شهر يوليو/تمّوز الماضي، جلب زبائن المكتبة ما يعادل 60 طناً من الكتب الروسية، واليوم ما تزال آلاف الكتب المنشورة بالروسية موجودة في القبو، في انتظار إعادة تدويرها.
وقالت الموظفة نادية كيبينكو في حديث مع "ذا إيكونوميست": "لا نريد أن تكون لنا أيّ صلة بثقافة تريد الحطّ من قدرنا"
دخل الممثل يوري دياك المكتبة حاملاً مجموعةً من العناوين المختلفة، منها مسرحيات لألكسندر أوستروفسكي وقصائد نيكولاي زابولوتسكي. وقال: "تعرّضت الثقافة الأوكرانية للإساءة مرّات عديدة، لكنّنا نملك الآن فرصة تاريخية للعودة إلى تاريخنا الحقيقي، لا التاريخ الذي فرضته علينا الحكومة السوفيتية والإمبراطورية الروسية".
قامت روسيا، التي سيطرت على مساحات واسعة من أوكرانيا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، والاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا جزءاً منه حتّى عام 1991، بقمع اللغة والثقافة الأوكرانية أكثر من مرّة. وبلغ القمع ذروته في عهد القيصر ألكسندر الثاني في القرن التاسع عشر الذي حظر التدريس ونشر الكتب وعرض المسرحيات باللغة الأوكرانية.
وينفي الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين اليوم وجود ثقافة أوكرانية منفصلة عن الثقافة الروسية. ومنذ بدء الغزو، احتلّ الجيش الروسي مساحات واسعة شرقي وجنوبي البلاد، وحظر الوصول إلى المواقع الإخبارية الناطقة بالأوكرانية، وغيّر أسماء الأماكن إلى الروسية. كذلك، أزال في مدينة ماريوبول نصباً تذكارياً لضحايا مجاعة هولودومور، التي قتل فيها الملايين وتمثل أحد أسوأ معالم فترة حكم ستالين، كما أجبرت المدارس على اتباع المنهاج الروسي.
هذا عدا عن الاعتقالات بحقّ الأوكرانيين المشتبه في صلتهم بالحكومة في كييف وإساءة معاملتهم.
وجاء أثر هذه الخطوات في بقية أوكرانيا بعكس ما يرغب به بوتين. ففي استطلاع للرأي صدر في صيف عام 2021، وافق 41% من الأوكرانيين على أنّهم والروس شعبٌ واحد، لكنّ هذه النسبة انخفضت إلى 8% فقط، في استطلاع آخر جرى في ربيع العام الماضي.
اليوم، يدعم معظم الأوكرانيين فكرة تغيير أسماء الأماكن السوفييتية والروسية، لكن حظر كتب روائيين وشعراء روسٍ ماتوا قبل قرون من اليوم ما زال يثير الكثير من الانقسام.
خلال تجواله في المكتبة بحثاً عن رواية جديدة ليقرأها، قال فاسيل إنّه وزوجته، التي نشأت في روسيا، قرّرا التوقف عن التحدث بالروسية، مشيراً إلى أنّ "سماعها يزعج أذني". مع ذلك رأى المحقّق المتقاعد أنّه لا يجب إدخال الأدب في دوامة الحرب، معتبراً أنّ إعادة تدوير الكتب المنشورة بالروسية خطوةٌ مبالغٌ بها. وشرح: "هذا يذكرني كثيراً بما قام به موسوليني".
وهو ما يتوافق مع رأي أشهر كاتب أوكراني معاصر، أندري كوركوف، الذي وُلد في روسيا ويكتب بلغتها. رغم "تفّهمه لمشاعر الناس"، إلّا أنّه يلفت إلى أنّ بعض المثقفين الأوكرانيين يستخدمون حملة إزالة كل ما له علاقة بالثقافة الروسية لتعزيز حضورهم على المستوى الوطني.
كذلك، رأى كوركوف أنّ أعماله الجديدة باللغة الروسية قد لا تُنشر إلا بعد انتهاء الحرب، وأضاف: "ردّ الفعل تجاه كلّ شيء روسي سلبيٌ وعدوانيٌ للغاية". ولفت إلى أنّه من الممكن تجاهل الكتاب الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا، لكنّه أكّد أنّه "لا يمكن إزالتهم".