لم يكن الاهتمام الإعلامي، عشية الإعلان عن اختيار فيلمٍ فرنسي للتنافس على اللائحة القصيرة لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (النسخة الـ96، في 10 مارس/آذار 2024)، بالفيلم المختار، بل بالمُستَبْعد من الاختيار، إذْ ركّزت معظم العناوين على "خروج" فيلم "تشريح سقوط" (2023) لجوستين تريّيه من التنافس كممثل رسمي للسينما الفرنسية، في "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" الأميركية. انهالت تعليقات وتصريحات، أعلن معظمها عن "ذهوله" بـ"إطاحة" فيلم تريّيه، التي تُعتبر رائدة في السينما الفرنسية الجديدة، وعن خيبة أمل بسبب إهمال فيلمٍ، وضعته كافة التوقّعات في المركز الأول، كأنّ فوزه بديهيٌّ بالكامل.
لكنْ، للجنة الاختيار ـ المؤلّفة من 7 سينمائيين يُعيّنهم وزير الثقافة الفرنسي بناءً على اقتراح رئيس اللجنة، ويتمّ تغييرهم كلّ عام لتجنّب تضارب المصالح، والمجتمعة في "المركز الوطني للسينما" في 22 سبتمبر/أيلول 2023 ـ رأي آخر، إذْ فضّلت "شغف دودان بوفان" للفرنسي ذي الأصل الفيتنامي تران آنه هانغ، عن فنّ الطهو الفرنسي، ومتعة التذوّق. فبدأت التخمينات بخصوص عدم اختيار فيلم تريّيه، وأعادت عناوين صحف فرنسية ومواقع ووسائل تواصل اجتماعي سبب استبعاد "تشريح سقوط" إلى خطاب مخرجته، بعد فوزها بـ"السعفة الذهبية" في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، الذي وُصِف بأنّه "صادم"، والذي قيل حينها إنّ صاحبته استغلّت منصّة المهرجان، ووجود أكثر من 3 ملايين مُشاهد على محطة "فرانس 2"، التي بثّت حفلة توزيع الجوائز، لإعلان موقف سياسي ملتزم، لم يكن "مُنتظراً"، كما في مقالة منشورة على الموقع الإلكتروني للمحطة الخاصة TF1، في 22 سبتمبر/أيلول الماضي.
فيه، ندّدت تريّيه بالأسلوب الصادم للحكومة الفرنسية في إنكار الاحتجاجات الطويلة للفرنسيين على إصلاح قوانين التقاعد، وأعربتْ، في عبارات شديدة اللهجة، عن قلقها مما أطلقت عليه "تسليع الثقافة"، مِن حكومة نعتَتْها بـ"الليبرالية الجديدة"، مُبديةً خشيتها من التهديد الذي يطاول "الاستثناء الثقافي الفرنسي"، الذي استفادت منه طول حياتها المهنية، كما قالت.
لم يُثِرْ فوز "تشريح سقوط" آنذاك أي اعتراضات وتعليقات سلبية، بعكس خطاب تريّيه المُثير لردود فعل كثيرة، خاصة سياسية، بدأتها وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبد المالك (من أصل لبناني) بتغريدة على X ("تويتر" سابقاً)، عبّرت فيها عن "مفاجأتها" بتصريحات تريّيه "غير العادلة"، مُستخدمةً مصطلحاً في التعبير عن انزعاجها الشديد لا يستخدمه السياسيون في فرنسا (يتعلق بأوجاع في المَعِدة). كما عبر وزراء ونواب عن استنكارهم لكلمة المخرجة، مُتّهمينها بالجحود، وبأنّها من هؤلاء الذين لا يَعون مدى تضحيات دافعي الضرائب الفرنسيين لدعم السينما الفرنسية، وبأنّ اتهاماتها لا أسس لها. لكنّ اليسار الفرنسي بمجمله حَيَّا موقفها وشجاعتها وموهبتها، كما شكرها، وعبّر بعضٌ عن "ذهوله" من كلام وزيرة الثقافة، كأنّ التمويل يُجيز شراء ضمير المُموَّل.
بعد صيف هادئ، عاد الجدل عند الإعلان عن الفيلم المختار للـ"أوسكار"، و"تشريح سقوط" كان مُفضّلاً عند مُحبيّ الفن السابع والنقّاد الفرنسيين والأجانب، ونُشرت كتابات تقول إنّ ترييه دفعت ثمن هجومها على الحكومة. كما قال نقّادٌ إنّ فرنسا تريد الترويج لفنّ الطهو الفرنسي، لا للسينما. و"تشريح سقوط" ـ الذي يُفَصِّل بدقة علاقات القوة والسيطرة بين زوجين كاتبين، تقود إلى جريمة قتل غامضة ـ يُحقِّق نجاحاً محلياً، إذ بلغت مبيعات بطاقات الدخول حاجز المليون، بعد شهر من عرضه في الصالات الفرنسية. هذا رقم قابلٌ للزيادة، طبعاً، مع استمرار عرضه، ويُعتبر نادراً بالنسبة إلى أفلامٍ فائزة بـ"السعفة الذهبية" في "كانّ"، كـ"تيتان" (2021) لجولي دوكورنو، الذي حقّق نحو 300 ألف بطاقة، و"حياة أديل" (2013) لعبد اللطيف كشيش، الذي لم يتجاوز مليون بطاقة. كما أنّه حقّق نجاحاً عالمياً، بعرضه في مهرجانات دولية مهمة بالنسبة إلى الـ"أوسكار"، كتورنتو ونيويورك ولوس أنجيليس، ورشّحه نقّاد أجانب للفوز بجائزة الأكاديمية الأميركية.
يقول مدافعون عن اختيار "شغف دودان بوفان" إنّ فرنسا لم تفز بـ"أوسكار" منذ عام 1993، مع "الهند الصينية" لريجيس فارنييه، وإنّ حظّها في الفوز أوفر مع هذا الفيلم، المتوافق مع الذائقة العامة للناس: تجري أحداثه في نهاية القرن الـ19، وأوجيني (جولييت بينوش)، الطاهية المتمّيزة، تعمل في المطعم المشهور لدودان (بونوا ماجيميل) منذ 20 عاماً. مع مرور الوقت، وممارسة فنّ الطهو والإعجاب المتبادل، ولدت علاقة رومانسية بينهما. من هذا الاتحاد، كانت تولد الأطباق، وكلٌّ منها أكثر لذة وحساسية من سابقه، فينال إعجاب الجميع ودهشتهم. مع ذلك، لم ترغب أوجيني، المتلهّفة للحرية، في الزواج من دودان، إلى أنْ يُقرّر الأخير فعل شيءٍ لم يفعله سابقاً: أنْ يطهو الطعام لها. بينوش يعرفها الأميركيون جيداً، وهذا عامل إضافي لمصلحة الفيلم.
نال "شغف دودان بوفان" جائزة الإخراج في الدورة الـ76 لمهرجان "كانّ"، العائد مخرجه به إلى المهرجان بعد 30 عاماً على "رائحة الباباي الأخضر" (1993)، الفائز حينها بجائزة "الكاميرا الذهبية" (مسابقة "نظرة ما") و"جائزة الشباب" في الدورة الـ46 (13 ـ 24 مايو/أيار 1993). جديده هذا يُكرِّم تقاليد المطبخ في فرنسا، بلده الثاني الذي اختاره للعيش فيه.