في مسلسل "مارفل" الجديد "فارس القمر" الذي بثّته منصة ديزني بلس قبل مدة قصيرة، اختبر المخرج المصري محمد دياب أشكالاً موسيقية اعتمدت في جملتها على الأغنية العربية، الكلاسيكية منها والمعاصرة. مساحات موسيقية تجرأ دياب على استضافتها ضمن سياقات خاصة، متجاوزاً في ذلك الرؤية النمطية للحضور العربي، فكراً وثقافةً وفناً، في الأعمال الأميركية ذات الميزانيات الضخمة. وفتح صفحة جديدة من شأنها أن تصوغ علاقة متجددة بين الموسيقى العربية والمنتج الأميركي.
صياغة تذكرنا بالعلاقة القديمة التي عرفت هذا الشكل من التمازج، في الأفلام الأجنبية المستقلة، في ما مضى، والتي كان لها دور مميز في فتح آفاق تجريبية، تتجاوز أدواتها مسألة التوصيف والتركيب في بناء الموسيقى التصويرية لتلك الأعمال.
أحد أشهر تلك الأعمال الفيلم الفرنسي The Lovers on the Bridge من إنتاج عام 1991، للمؤلف والمخرج الفرنسي ليوس كاراكس. يسلط العمل الضوء على حياة المشردين في باريس. علاقة الحب التي ستجمع بين بطلي الفيلم ميشيل (جولييت بينوش) وأليكس (دينيس لافانت)، على أحد جسور باريس المقفلة والمهملة (جسر بونت نوف)، من شأنها أن تعكس مشاعر متوهجة تكسر معها عبثية المدينة وصخبها، لتفسح مجالًا للقلوب المتعطشة للأمان والحرية.
في واحد من أهم مشاهد الفيلم، سيغرق العاشقان -ضمن مشهد مسرحي فانتازي- في حالة إنكار مطلق لجحيم الحياة وقسوتها، لتكون أغنية فيروز "جايبلي سلام" مدخلاً يبرر كاراكس من خلاله جدوى التناغم الشرقي وملاءمته للصراع النفسي في إطاره الجمالي المتصاعد. بعدها، ستتداخل مجموعة أصوات وألحان مركبة بين هارمونيكا وراب وموسيقى أوركسترالية، لتشكل في مجموعها مزيجاً موسيقياً ساحراً، يعكس اختلاجات العاشقين وأداءهما السورياليين، قبل أن يختتم كاراكس المشهد بلقطة واسعة للجسر الغارق في الظلام والاغتراب، مع قفلة موسيقية لأغنية فيروز "يا ساكن العالي". وهي ترنيمة وُظّفت لتكون مستقَراً للمشاهد المنفعل، على غرار العاشقين اللذين سيستكينان بشكل يتفاعل مع توليفة الترنيمة وشجنها، التي تنشد تضرّعاً لله وتدعو للألفة بين الأحبة.
في نسخة مشابهة، سنستمع إلى ترنيمة أخرى لفيروز، تحمل عنوان "قامت مريم". وُظّفت هذه الترنيمة في فيلم السيرة الذاتية الأميركي Before Night Falls الذي صدر عام 2000. ينقل لنا الفيلم حياة المواطن والشاعر الكوبي رينالدو أريناس (خافيير بارديم) خلال فترة صعود الثورة الكوبية، بقيادة فيديل كاسترو، وإسقاطها نظام فولغينسيو باتيستا. أقحم جوليان شنابيل، مخرج الفيلم، هذه الترنيمة في توقيت مثالي ضمن مشهدٍ ساحرٍ، يختزل جميع الآلام ومشاهد الترويع والاضطهاد التي مرّ بها البطل بسبب مثليته. خلال فترة حياته الثورية وانقلابه عليها، وبعد أن اكتشف حجم الاضطهاد الذي مارسته حكومة كاسترو ضد المثلية الجنسية وضد الفنانين غير المنضوين تحت لواء الثورة، ينجح البطل في الهروب من كوبا إلى أميركا.
خلال رحلته هذه، سنستمع إلى ترنيمة تخطف إيقاع الفيلم من فجاجة أحداثه، وتخلق مساحة للمشاهد للتأمل والتفكر في جميع المظالم التي كابدها البطل، على غرار كلمات الأغنية التي تحاكي فحواها قصة السيد المسيح وعذاباته.
تجربة أخرى جريئة ونادرة نجدها في الفيلم الفرنسي The Hairdresser's Husband الصادر عام 1990. في هذا العمل، اعتمد المؤلف والمخرج باتريس ليكونت على الأغنية العربية في مسارات الشريط الموسيقية بشكل كبير، لينقل لنا طاقة البطل أنطوان (جان روشفورت) وشغفه للحياة وعشقه لماتيلد (آنّا غالينا)، ضمن سرديات جميلة مفعمة بالأحاسيس المرهفة والبسيطة، جمعت بين البطلين في قصة حب مؤلمة وغريبة.
اختيار أغنيات عربية في بيئة فرنسية ريفية كان له وقع طوباوي يليق بقصة الفيلم وسلوكيات أبطاله وأفكارهم الخاصة، ولا سيما أن عشق أنطوان للموسيقى العربية وتوظيف المخرج لها في فضاء مكاني يرتكزان على نشاط اجتماعي غير مثقل بصخب المدينة وضجيجها، يلفت انتباهنا للتماهي مع شخصية سينمائية مختلفة وغريبة في أفكارها وتصوراتها لمفاهيم الحياة البعيدة عن التعقيد. وربما كانت هذه الأغنيات تعكس طابعاً عاطفياً، يجمع بين الخشونة والليونة والشجون، بشكل لن تتماهى بيئة العمل معها، لو جرى إقحام موسيقات أخرى غير عربية. من تلك الأغنيات "ألا يا حدة بأقصى فؤادي" و"أصفق عليك" للمغنية العراقية الراحلة رباب، و"سألوني الناس" لفيروز، وكذلك كل من أغنية "وا دانا" و"يا ريت فيي خبيها" للمغني اللبناني راغب علامة.
اختيار الموسيقى العربية في تلك الأعمال المشار إليها أعلاه، يجعلنا نتساءل عن الأعمال العربية الدرامية والسينمائية. عن كيفية تعاملها مع الموسيقى الأجنبية وشكل الاستخدامات الفنية في معرض إنتاجاتها. فالوظيفة الموسيقية تكتمل باكتمال العنصر السردي وغايته في تحريض الفعل الدرامي. لكن أغلب الإنتاجات العربية، لم تتناول العنصر الموسيقي الأجنبي كفعل درامي مؤثر في كتلة العمل وعناصره البصرية والسمعية، بل اكتفت بنقلها كأداة تجميلية تؤثث الفراغ السمعي، من دون غايةٍ تعكس طموح قصة أو مأساةٍ أو واقعٍ.
حتى إن هناك بعض الأعمال العربية، التي استخدمت عددًا من الأغنيات العالمية الشهيرة لتكون أداةً لتمكين الفعل الكوميدي لا أكثر، كما حصل في بعض المسلسلات السورية، مثل أغنية "ماكارينا" في مسلسل "الفصول الأربعة". ربما كان هناك استخدام جاد في مسلسل "الخط الأحمر" الذي صدر عام 2008، وحاول فيه مخرج العمل، يوسف رزق، تسليط الضوء على واقع الشباب السوري في تلك الفترة، وركوبهم موجة التقليد الثقافي لموسيقى الميتال.
لكن لم تكن لهذا التوظيف غاية أبعد من نقل صورة عامة، ترتبط بالنوع الموسيقي نفسه، أو تأثيره أو أبعاده الدرامية، مثل ما حصل في الفيلم الألماني "الخوف يأكل الروح" (1974). اعتمد المخرج راينر فاسبندر على وضع ألحان عربية، كأغنية "عالعصفورية" و"رايحة قابل حبيبي" للمغنية اللبنانية الراحلة صباح. وهذا استخدام له مبرراته. ليس بغرض ملء الفراغ السمعي وتحسين حالة المشهد، وإنما لعكس ماضٍ عربي يتغلغل في ذاكرة بطل الفيلم الهادي بن سليم، على اعتبار أنه لاجئ مغترب يعيش في ألمانيا، وللإشارة إلى العلاقة العاطفية الغريبة والمجنونة التي ستجمع بينه وبين البطلة إيمي (بريجيت ميرا) التي تلعب دور امرأة مسنة ووحيدة تكبر البطل بعقود. تثير هذا العلاقة أزمات اجتماعية وعنصرية بين محيط البطلين وثقافتيهما.