يتزايد التضييق على الحريّات الإعلاميّة في تونس يومياً، منذ 25 يوليو/تموز 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيّد قراراته الاستثنائية بتجميد عمل البرلمان المنتخب، وإقالة حكومة هشام المشيشي، وتفرده بالسلطتين التنفيذية والتشريعية. ويعيش الإعلام في وضع يتسم بالضبابية في التعاطي معه، إذ بات عرضة للكثير من الهجمات من قبل الماسكين بزمام السلطة، وعلى رأسهم سعيّد الذي ينظر إلى الإعلام المحلي نظرة فوقية، وفقاً لأغلب المتابعين للشأن الإعلامي.
نظرة فوقية ترجمها برفضه إجراء حوارات صحافية مع المؤسسات الإعلامية التونسية ما عدا حواراً واحداً بعد 100 يوم من توليه السلطة. ورفض عقد مؤتمرات صحافية، ومنع الصحافيين من طرح أسئلتهم للاستفسار عن الأوضاع الحالية، وما زاد من تأكيد هذه النظرة الاستعلائية تصريحه الأخير بأنّ الإعلام المحلي "يكذب ولا يقدم الحقائق كما أنه يهتم بمسائل شكلية ويبتعد عن القضايا الجوهرية".
وشنّ سعيّد، في أثناء لقائه، مساء الاثنين الماضي، رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن، هجوماً عنيفاً على الإعلام المحلي، واصفاً إياه بالكاذب، واتهمه بتزييف الحقائق والاهتمام بالمسائل التافهة وعدم الاهتمام بالقضايا الجوهرية والهامة. وهاجم تعاطي الإعلام التونسي مع الاستشارة الإلكترونية التي أعلنها وتنطلق رسمياً يوم 15 كانون الثاني/ يناير الحالي، وهي استفتاء للتونسيين حول ستة محاور يعتبرها النظام مهمة لرسم معالم المستقبل. وقال مستغرباً: "كلّ يوم يضعون على أعمدة الصحف الاستفتاء الإلكتروني بين معقوفين، لو وضعوا أنفسهم بين المعقوفين لكان أفضل"، وأضاف: "هؤلاء ينطبق عليهم قول مظفر النوّاب: يكذب يكذب يكذب كنشرة الأخبار".
اتّهم قيس سعيّد الإعلام التونسي بالكذب وتحوير الحقيقة
هذا الواقع انعكس مباشرةً على مناخ العمل الإعلامي، فطالب الكثير من الصحافيين من النقابة الوطنية للصحافيين التدخل لتسهيل مهامهم. وباتصال مع "العربي الجديد"، بيّن نقيب الصحافيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي، أن "ما يقوم به الرئيس قيس سعيّد من هجوم على الإعلام، تعسّف خطير وممارسة ضغط غير مقبول على الصحافيين". وأضاف: "ليس من دور الرئيس تقييم الإعلام، فهناك من يقوم بهذا الدور، وهو الهياكل التعديلية مثل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) ومجلس الصحافة، وهي هياكل تتميز بمهنيتها ويحق لها تقييم الوضع الإعلامي لتعديله من أجل ضمان صحافة ذات جودة ونوعية".
من ناحيتهم، اعتبر الكثير من الإعلاميين أن الهجوم على الإعلام التونسي من قبل سعيد مفخرة لهذا الإعلام وللإعلاميين، لا قدح لهم مثلما يذهب في اعتقاد الرئيس نفسه. لكنّ "الهجوم على الإعلام التونسي من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد ليس بالأمر الجديد"، حسبما أكدت لـ"العربي الجديد" فوزية الغيلوفي، عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين، إلا أنّها أضافت: "لكن يبدو أننا دخلنا الآن مرحلة جديدة أكثر مباشرة في الهجوم، وهو ما ستكون له تبعاته على المشهد الإعلامي وما سنتصدى له باعتبارنا هيكلاً نقابياً نمثل الصحافيين التونسيين".
تعاطي الرئاسة التونسية مع الإعلام كانت له امتداداته في رئاسة الحكومة التونسية، حيث أصدرت رئيسة الحكومة نجلاء بودن مرسوماً تمنع فيه الوزراء وكبار المسؤولين من الإدلاء بتصريحات إعلامية قبل الحصول على ترخيص مسبق منها، وهو ما عرقل عمل الصحافيين التونسيين والمراسلين الأجانب الذين يعانون من سياسة التعتيم التي تعتمدها السلطات التونسية. وقد كان لـ"العربي الجديد" اتصال مع أحد الموظفين (رفض ذكر اسمه) في دائرة الإعلام والاتصال بالحكومة التونسية الذي أكد أن هناك ضبابية في التعاطي مع الملف الإعلامي، في ظل عدم وجود مستشار إعلامي لرئيسة الحكومة التونسية. وأضاف أنه عمل مع حكومات سابقة كان فيها ملف الإعلام من اختصاصات رئاسة الحكومة، لكن الأمر تغير الآن، فالملف رُحِّل لرئاسة الدولة التي تتولى إدارته من قصر قرطاج.
تلك التطورات لاقت استنكارات واسعة من صحافيين وسياسيين ومنظمات حقوقية. يوم الثلاثاء الماضي، قال رئيس "حزب التكتل" خليل الزاوية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "المقلق في هذا الوضع أن البرامج في وسائل الإعلام العامة أصبحت في اتجاه واحد، وكأن هناك عودة إلى ما قبل الثورة التونسية، أي وكالة الاتصال الخارجي التي كانت تروج لنشاط الرئيس بن علي والنظام السابق". وبيّن أن جزءاً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة صار يتجنب الحوارات السياسية، مضيفاً أن هذا يكشف عن وجود ضغوطات لتجنب هذه الحوارات، وعن "رغبة واضحة من السلطة التنفيذية في تدجين الإعلام".
واعتبر القيادي والنائب بـ"حزب ائتلاف الكرامة" منذر بن عطية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ استهداف سعيد للإعلام ليس بجديد عليه، فهو يستهدف كل من ينتقده أو يخالف موقفه، مشيراً إلى أن هذا الاستهداف "إنما هو تواصل لمشروعه الاستبدادي الرامي إلى وضع يديه على كل مفاصل الدولة".
من جانبه، قال القيادي في حزب "تحيا تونس" وليد جلاد، في تصريح لـ"العربي الجديد" إنّ "الاستماع إلى صوت الرئيس والصوت الواحد لم يبدأ الآن، بل منذ 25 يوليو/تموز، وهذا ما تم التحذير منه، فسعيد يستهدف كلّ القطاعات، وهو الحاكم بأمره، وله كل السلطات"، مؤكداً أنه "يعتبر نفسه في مقام أعلى من رئيس الجمهورية".
ورأى القيادي في التيار الديمقراطي نبيل الحجي أنّ "رئيس الجمهورية يعتقد أنه فوق الجميع من أجل فرض تصور جديد للدولة"، مؤكداً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تصور سعيد يتمحور حول شخصه، وكلّ من خالفه الرأي أو كان بينه وبين الشعب يجب أن يرحل، والمؤسسات والأحزاب والمجلس الأعلى للقضاء والهيئات والإعلام والأجسام الوسيطة كلها، بحسب سعيد، يجب أن ترحل". وتابع الحجي أن "لا صوت غير الصوت الواحد والرأي الواحد، ولمَ لا السياسة الواحدة". وبحسبه، إنّ "استهداف سعيد للإعلام يرجع إلى أن أي حاكم مرتبك، من طبيعي أن يضع يده على الإعلام، وطبيعي أن أي مستبد يسعى إلى وضع يده على الإعلام".
وأكد القيادي بحزب حراك تونس الإرادة مبروك الحريزي، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أن جزءاً من الإعلام انخرط في التحضير للانقلاب قبل 25 يوليو، "وساهم في عملية الترذيل". وأضاف: "بعد 25 يوليو هناك مؤسسات إعلامية تبنت الانقلاب، وكان واضحاً، بحسب تقارير (الهايكا)، أنه تم إعطاء المساحة فقط للمساندين لقرارات 25 يوليو. كما انخرطت في الإشاعات وفي التضييق على بعض الحضور، وهناك مؤسسات أخرى انخرطت في الصمت على الانقلاب وألغت برامجها السياسية". وبيّن المتحدث أن "هناك قراراً بمنع الأحزاب السياسية من الحضور في الإعلام الحكومي، وحتى المقدمين الذين سيطروا على البرامج هم من الموالين للنظام السابق وليس هناك إلا رأي واحد". وبحسب تقديره، فإن "الرئيس أعلن صراحة رغبته في السيطرة على الإعلام، بينما كان هذا سابقاً يحدث سراً عبر ضغوطات بدأت من تذمره من نشرة الأخبار".
من جانبها، استنكرت منظمة "صحافيون بلا قيود" التعرض للصحافيين، داعيةً إلى حماية العاملين في مجال الصحافة والإعلام خلال القيام بعملهم. وعبّر البيان عن رفض المنظمة والمبادرة لكلّ محاولات تطويع الإعلام أو التحكم في خط تحرير المؤسسات الإعلامية. ودعا إلى احترام حرية التعبير والكف عن ملاحقة الصحافيين والمدونين بسبب آرائهم، وتسهيل نفاذ الصحافيين إلى المعلومات، وحمّل البيان رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة القائمة مسؤولية سلامة الصحافيين.
حجب المعلومات عن الصحافيين وصعوبة الحصول عليها استفحل مع إقامة مؤتمرات صحافية من دون دعوة الصحافيين، أو يمنع فيها المراسلون من طرح الأسئلة. وما يزيد من صعوبة وصول الصحافيين إلى المعلومات، غياب مستشارين إعلاميين في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وفي كلّ الوزارات، إذ سبق أن أعلنت رئاسة الحكومة عن تعيين آمال العدواني مستشارة إعلامية لرئيسة الحكومة يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ليجري التراجع عن القرار بعد 24 ساعة فقط، وهو ما أثار الاستغراب فى الساحة الإعلامية، واعتبر كثيرون أنّ حالة من عدم الوضوح تحكم تعاطي الحكومة مع الإعلاميين. كذلك قرر وزير الداخلية توفيق شرف الدين إقالة الناطق الإعلامي باسم الوزارة ياسر مصباح، يوم 3 ديسمبر/ كانون الأول2021، بعد شهر فقط من تعيينه، لتبقى الوزارة من دون ناطق رسمي، وهو ما يصعب من عمل الصحافيين. أما الرئيس التونسي قيس سعيّد، فيرفض تعيين ناطق رسمي باسم رئاسة الجمهورية، وهو ما يجعل تواصل الرئاسة الأولى مع الصحافيين مهمة معقدة كلّ يوم. وما يزيد الطين بلة، تغييب الصحافيين عن المؤتمرات الصحافية التي يعقدها الرئيس التونسي مع ضيوفه من الرؤساء.