في بلد تتهاوى فيه كل مقومات العيش يومياً، يبدو أداء الإعلام اللبناني أقرب إلى التهريج، منه إلى أسطورة "السلطة الرابعة". والتهريج ليس بالضرورة وصفاً سلبياً، لكنه يصبح كذلك عندما يختلط الفراغ الذي تقدّمه الشاشات مع النبرة الزجرية التي تطلّ فيها على المشاهدين كل يوم.
هكذا تعلو الخطب الوعظية، وينتفخ معها حجم الواعظ. وليس من مثال أوضح على هذا الانتفاخ الهلامي من احتفاء قناة LBCI ومذيعها ماريو عبود، قبل أسابيع، بالحصول على جائزة أفضل مقدمة إخبارية لعام 2020، عن مقدمة "بلا مخّ" الشهيرة، من دون أن تدرك القناة والمذيع أن الجائزة ساخرة. ساخرة من المقدمة، ومن نبرتها، ومن مضمونها.
في المقدمة إياها التي توجّهت فيها القناة إلى المشاهدين مع الموجة الأولى لكورونا حمّلتهم مسؤولية ارتفاع الإصابات. تضخّمت المقدمة لتصبح نهجاً يومياً، فيتلقّى المشاهدون اللبنانيون كل ليلة جرعة تأنيب على طيشهم.
لكن في الحقيقة النبرة الوعظية هي أقلّ أزمات الإعلام اللبناني، وأخفّها، في تغطية الموجة الثانية من تفشي فيروس كورونا في البلاد. المشكلة في الأساس أخلاقية. يتعاطى الإعلام المرئي في لبنان بصفته وصياً راشداً على مجموعة من القاصرين. يعطي لنفسه سلطة لا يملكها، ويفرضها على المشاهد، فيسمح لنفسه بانتهاك خصوصية المواطنين، بتصوير وجوههم في الشارع، إن كانوا لا يرتدون كمامة، أو جالسين على شاطئ تحت الشمس. وفي حال طلب المواطن عدم تصويره واحترام رغبته في الخصوصية، تقترب الكاميرا أكثر، تلتهم المساحة الخاصة به، ثمّ تبصقها على الشاشة، ليكون هذا التشهير عبرة لباقي القاصرين الجالسين في بيوتهم.
إنه الفراغ، الذي يمتلئ حشواً طبقياً وأمنياً ويصنع في النهاية ما يسمى محتوى الإعلام اللبناني
هل تكتفي شراهة الكاميرا؟ طبعاً لا. تذهب إلى العناية الفائقة في المستشفيات، وتصوّر المرضى المحتضرين من الفيروس، وتطلب منهم تقديم نصيحة للمواطنين. ابتزاز عاطفي، لمشاهدين لا يتلقون الحدّ الأدنى من التوعية العلمية والصحية حول الوباء عن الفيروس منذ شهر مارس/ آذار الماضي.
استعراض بصريّ ساذج يتكرّر في كل نشرة إخبارية، فلا يقدّم سوى فراغ إعلامي، بنبرة تهديدية أمنية. لكن هذا الصوت المرتفع ينخفض، ثمّ ينخفض أكثر فيكاد يختفي، عند توزيع المسؤوليات حول التفشي التراجيدي للفيروس في الشهرين الأخيرَين. من يتحمّل مسؤولية القرارات العشوائية بفتح البلاد ثمّ إقفالها مع عشرات الاستثناءات؟ من سمح بإقامة سهرات في رأس السنة من دون أي تدابير احترازية؟ من أبقى خمسين جهاز تنفّس مرمياً في المدينة الرياضية في وقت يموت اللبنانيون في بيوتهم وفي مواقف سيارات المستشفيات بسبب نقص في الأجهزة؟
صمت مطبق، صمت متواطئ، يترجم بتنبيهات تصل إلى الهواتف عبر تطبيقات هذه القنوات عن الجهد الخارق للحكومة في مواجهة الوباء. ويترجم بمقابلات ليلية مع فنانين كانوا واحداً من أسباب تفشي الفيروس من خلال إقامتهم حفلات ليلة رأس السنة. هل شاهدتم جوزيف عطية ليلة أمس وهو يحدّثنا عن التزامه الحجر المنزليّ؟ أطلّ من منزله الذي يضم استديو ونادياً رياضي، ليكون مثالاً يحتذى به من قبل المواطنين الـ"بلا مخ". تغرق القنوات في جهلها، وتصدّر الامتيازات المالية والطبقية التي يتمتّع بها الأثرياء بصفتها مثالاً للتعميم. ألم تخبرنا في الأسابيع الأولى أن هذا الوباء لا يفرّق بين فقير وغني؟ الفوارق الطبقية تفصيل تافه أمام مواجهة الوباء، يتحوّل فيه الفقراء إلى فرجة. خرقهم للإقفال فرجة، تعليقاتهم فرجة، غضبهم فرجة، وموتهم فرجة. أما أنهم لا يموتون. هذا ما قاله لنا أحد المذيعين "لم يمت أحد من الجوع في عزّ الحرب الأهلية". ويتحوّلون إلى فرجة حين يلتزمون بالإقفال "المُفاجئ أكثر هو أن المخيمات الفلسطينية التزمت بإجراءات الحجِر".
إنه الفراغ، الذي يمتلئ حشواً طبقياً وأمنياً ويصنع في النهاية ما يسمى محتوى الإعلام اللبناني.