استمع إلى الملخص
- مفهوم "المجمّع العسكري الصناعي الإعلامي" يوضح العلاقة بين الجيوش، شركات الأسلحة، والإعلام في تشكيل الرأي العام، كما حدث في حرب الخليج الثانية مع جنرال إلكتريك وNBC.
- تسيطر خمس شركات كبرى على 90% من الإعلام الأميركي، مما يعزز تداخل المصالح مع شركات الأسلحة، كما يظهر في التغطية المنحازة لإسرائيل في حرب غزة.
في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبينما كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يمهّد لاقتحامه الأول لمستشفى الشفاء، استهدف تجمعاً للصحافيين أمام المستشفى. يمكن الانطلاق من هذه الجريمة للحديث عن استهداف المستشفيات والصحافيين، بوصفهما مؤشرين أساسيين لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. لكننا في ما يلي سنتحدّث تحديداً عن الصاروخ الذي سقط على الصحافيين المتجمعين خارج المستشفى. صاروخ صنّعته وباعته لإسرائيل شركة لوكهيد مارتن الأميركية، أكبر شركة مصنعة للأسلحة في العالم، التي تزوّد الاحتلال بطائرات مقاتلة من طراز إف-16 وإف-35، لقصف غزة، كما تزوّد الجيش الإسرائيلي بمجموعة واسعة من الذخائر وأنظمة إطلاق الصواريخ. وبحسب موقع شركة لوكهيد مارتن الإلكتروني الرسمي، من المتوقع أن يتجاوز حجم التعاون بينها والصناعات الإسرائيلية 6 مليارات دولار قريباً. هذه المليارات التي تراكمها الشركة، وغيرها من شركات تصنيع الأسلحة والمعدات الحربية الأميركية، تقابلها ماكينة إعلام وضغط عملاقة، تعمل بشكل أساسي على خلق رأي عام داعم للحروب والعسكرة بهدف تأمين سوق مستمرة للأسلحة والطائرات والذخائر.
يتداخل عمل شركات الأسلحة والإعلام بشكل مباشر وإن غير واضح المعالم دائماً، خصوصاً أن له مستويات متعددة ومعقدة تتراوح بين الإعلانات المدفوعة في المؤسسات الإعلامية وبين الاستثمار غير المباشر. ووسط التفاصيل التي تشكّل هذه المستويات المتشابكة من العلاقة بين الطرفَين يتضح جزء من أسباب انحياز الإعلام الغربي، الأميركي خاصة، للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة التي ينفذها في قطاع غزة منذ أكثر من عام، والتشجيع على مواصلة الحرب.
هذا التداخل والتضارب في المصالح له اسم يلخّصه ويعرّفه "المجمّع العسكري الصناعي الإعلامي"، الذي يختصر العلاقة بين الجيوش ممثلة بوزارة الدفاع، وشركات تصنيع، والإعلام الأميركي. والمصطلح نسخة موسعة من مفهوم آخر هو "المجمّع العسكري الصناعي" التي أطلقها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي عام 1961، حين حذّر من خطورة نشوء تحالف قوي بين الجيش وشركات صناعات الأسلحة على السياسة العامة. على مدى العقود التالية، وسّع النقاد والباحثون هذا المفهوم ليشمل الإعلام، مشيرين إلى أن هذه الصناعات تلعب دوراً حاسماً في تشكيل الرأي العام حول الحروب، والإنفاق الدفاعي، والسياسة الخارجية.
حرب الخليج الثانية
عند البحث عن مثال يختصر فكرة "المجمّع العسكري الصناعي الإعلامي" تبدو حرب الخليج الثانية (1990-1991) هي الساحة الفضلى لتوضيح المفهوم. في تلك الفترة كانت شركة جنرال إلكتريك قد وقّعت عقداً بمليارَي دولار مع وزارة الدفاع الأميركية لتزويدها بطائرات عسكرية وأنظمة رادار وغيرها من التقنيات الدفاعية. استخدمت هذه الأسلحة خلال حرب الخليج الثانية، وحتى خلال الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003. وقتها كانت "جنرال إلكتريك" تمتلك نسبة كبيرة من أسهم شبكة إن بي سي (NBC) الإعلامية الأميركية. بطبيعة الحال كانت الشبكة متحمسة للحرب، وقد ركزت في تغطيتها على الأسلحة المستخدمة في تسويق غير مباشر لصناعات شركتها الأمّ، أي "جنرال إلكتريك". وقد دأبت الشبكة حتى قبل الحرب على الترويج أو الإشادة بالأسلحة الأميركية في مناسبات مختلفة، حتى أنّ الكاتبين مارتن لي ونورمان سولومون أشارا في كتباهما Unreliable Sources: A Guide to Detecting Bias in News Media الصادر عام 1990 إلى الموضوع بالقول "بعبارة أخرى، عندما يشيد المراسلون والمستشارون على شاشة إن بي سي بأداء الأسلحة الأميركية، فإنهم يشيدون بالمعدات التي تصنعها شركة جنرال إلكتريك، الشركة التي تدفع رواتبهم". مثال جنرال إلكتريك وNBC هو ربما الأكثر مباشرة ووضوحاً، خصوصاً أن المشهد الإعلامي تغيّر منذ حرب الخليج أو حتى اجتياح العراق. إذ منذ عام 2020 باتت خمس شركات كبرى فقط تمسك بزمام مجمل الإعلام الأميركي، أي المرئي والمكتوب والمسموع والإلكتروني، ومنصات البثّ التدفقي. نتحدّث هنا عن:
- Warner Bros. Discovery: من أبرز مؤسساتها سي إن إن، وإتش بي أو
- كومكاست: من أبرز مؤسساتها إن بي سي يونيفرسال، وتيليموندو، ويونيفرسال بيكتشرز
- ديزني: من أبرز مؤسساتها إيه بي سي، وإي إس بي إن، وبيكسار، ومارفل استوديوز
- نيوز كورب: من أبرز مؤسساتها فوكس نيوز، ووول ستريت جورنال، ونيويورك بوست
- فياكوم سي بي إس: من أبرز مؤسساتها سي بي إس، وباراماونت بيكتشرز.
تمتلك هذه التكتلات الخمسة نحو 90% من وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، بما في ذلك الصحف والمجلات ودور نشر الكتب واستوديوهات الأفلام ومحطات الراديو والتلفزيون.
احتكار الإعلام من خمس إمبراطوريات فقط يتجاوز البعد الاقتصادي لعمليات الدمج المعتادة. إذ غالباً ما تكون لشركات الإعلام العملاقة إدارات متشابكة، أي أنّ الشخص نفسه يشغل مناصب إدارية في أكثر من شركة، وهو ما بات أكثر شيوعاً في الألفية الجديدة. وبحسب دراسة أجرتها منظمة FAIR ونشرت عام 2012، فإنّ أغلب شركات الإعلام والترفيه ضمّت في مجالس إدارتها شخصيات لها ارتباطات بشركة صناعة الأسلحة: شركة ABC/Disney مع شركة بوينغ، وصحيفة نيويورك تايمز وشركة RTX، كما تضاربت المصالح بين أكبر مصنّع للأسلحة في العالم أي لوكهيد مارتن وصحيفة واشنطن بوست، بينما كان لشركة كاتربيلز التي تصنّع بولدزورات يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي علاقات واستثمارات مع شركة تريبيون، مالكة "شيكاغو تريبيون، و"لوس أنجليس تايمز".
اجتياح العراق والمحللون العسكريون في الإعلام
وجه آخر من أوجه سيطرة شركات الأسلحة على الخطاب الإعلامي، خصوصاً خلال الحروب، هو تصدير محللين عسكريين يحتلون الشاشات والصحف والإذاعات، ويقدمون خطاباً إعلامياً داعماً للحرب ومختلف ارتداداتها. تقدّم وسائل الإعلام هؤلاء المحللين بصفتهم ضباطاً متقاعدين أي متخصصين بالشأن العسكري والحروب، ما يخلق ثقة تلقائية بينهم وبين الجمهور، لكن ما لا تكشفه أغلب المؤسسات الإعلامية هو ارتباط هؤلاء بعقود وظيفية أو استثمارات في شركات تصنيع الأسلحة الكبرى في الولايات المتحدة. وكانت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أوّل من رسّخت هذه الثقافة الإعلامية ــ العسكرية، بعد بدء "حربها على الإرهاب" باجتياح أفغانستان ثم العراق. إذ استخدمت إدارة بوش شبكة من الضباط العسكريين المتقاعدين لتشكيل رأي عام داعم لسياساتها الحربية. وفي 2005، ووسط انتقادات حقوقية دولية لظروف الاحتجاز في معتقل غوانتنامو، نظّمت وزارة الدفاع الأميركية رحلة لمجموعة من المحللين العسكريين المتقاعدين داخل المعتقل في كوبا. بعد العودة من غوانتنامو، أطل جميع هؤلاء على الشاشات، للحديث إيجاباً عن المعتقل، وعن المعدات المستخدمة فيه، وتلك التي استعملت في إنشائه لاحترام حقوق المعتقلين. لكن الجانب المخفي من كل ما سبق هو أن كل هؤلاء المحللين الذين زاروا غوانتنامو لديهم ارتباطات وظيفية ومالية مع أكثر من 150 شركة مصنّعة للأسلحة والمعدات المستخدمة في المعارك، وهي الشركات نفسها التي تحقق أرباحاً بمليارات الدولارات من الحرب على أفغانستان والعراق، وفتح معتقل ضخم بحجم غوانتنامو مع كل المعدات والأسلحة التي يحتاجها، بحسب تحقيق لصحيفة نيويورك تايمز، نشر في 20 إبريل/ نيسان 2008.
الصحيفة اطلعت وقتها على سجلات ومقابلات تظهر كيف استخدمت إدارة بوش، بالتعاون مع شركات تصنيع الأسلحة والمعدات العسكرية، المحللين العسكريين وحولتهم إلى حصان طروادة إعلامي، أي مجرّد أداة تهدف إلى تشكيل خطاب إعلاميّ داعم للحرب على كل الشاشات الرئيسية في البلاد. حصل هؤلاء المحللون الذين يتقاضون رواتب ضخمة من شركات الأسلحة على إحاطات مع كبار القادة العسكريين، وشاركوا في جولات خاصة في العراق، ووصلوا إلى معلومات استخباراتية سرية. مقابل الرواتب الضخمة وكل هذه المعلومات، صاغ المحللون العسكريون، وأغلبهم ضباط متقاعدون في الجيش الأميركي أو أجهزة الاستخبارات، رأياً وخطاباً داعماً بلا أي نقد أو مراجعة للحروب التي شنتها واشنطن.
فلسطين قبل الإبادة وبعدها
لانحياز الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية منذ ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أسباب كثيرة، سياسية وثقافية وأيديولوجية وعنصرية. ولهيئات التحرير فيها أيضاً التأثير الأكبر، خصوصاً أن قسماً كبيراً ممن يغطون أو يشرفون على تغطية الملف الفلسطيني، سبق أن خدموا في جيش الاحتلال أو يحملون الجنسية الإسرائيلية. لكن لا يمكن إهمال دور شركات تصنيع الأسلحة في صياغة خطاب يشجّع على العسكرة ومواصلة الحرب دعماً لإسرائيل.
بحسب تقرير أعدّه وبثه التلفزيون العربي أخيراً، تخطت إيرادات شركة لوكهيد مارتن في الربع الثالث من العام الحالي 17 مليار دولار، ورفعت توقعات إيراداتها للسنة المالية لأكثر من 71 مليار دولار. بينما ارتفعت إيرادات جنرال ديناميكس (تصنّّع دبابات أبرامز) للربع الثالث لتصل إلى 11 ملياراً و700 مليون دولار. الأمر نفسه ينطبق على شركة نورثروب غرومان التي ارتفعت مبيعاتها إلى نحو 10 مليارات دولار. أما شركة RTX فسجلت مبيعات بقيمة 20 مليار دولار.
هذه المليارات المتراكمة على شكل أرباح يوازيها خطاب إعلامي يجعل من إسرائيل وأسلحتها وطائراتها وصواريخها أسطورة العصر الحديث.
"كيف تعمل القبة الحديدية الإسرائيلية؟"، "شاهد القبة الحديدية تعترض صواريخ أطلقت من لبنان نحو إسرائيل"، "القبة الحديدية الإسرائيلية المذهلة، أنقذت آلاف الأرواح"، هذه عينة من عناوين التقارير التي عرضتها المؤسسات الإعلامية على الشاشات أو على مواقعها الإلكترونية، منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة.
هذا الانبهار بالقبة الحديدية يصبح أكثر فهماً، عندما ندرك أن شركة RTX الأميركية ساهمت في تصنيع وصيانة وتأمين الصواريخ الاعتراضية للقبة الحديدية. وبين RTX (رايثيون سابقاً) ومعها كبرى شركات الأسلحة، وبين المؤسسات الإعلامية الكبرى، كلمَتا سرّ تشرحان تشابك العلاقات والمصالح: بلاكروك وفانغارد. بلاكروك هي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، إذ تبلغ الأصول الخاضعة للإدارة 11.5 تريليون دولار. أما فانغارد فهي أكبر مزود للصناديق المشتركة وثاني أكبر مزود لصناديق المؤشرات المتداولة في البورصة، بعد بلاكروك.
تستثمر الشركتان في كل المؤسسات الإعلامية الأميركية تقريباً. وتملكان معاً 18% من شبكة فوكس، و16% من "سي بي إس"، و13% من كوماست - التي تملك شبكات إن بي سي، وإم إس إن بي سي، وسي إن بي سي، ومجموعة سكاي الإعلامية ــ و12% من "سي إن إن"، و12% من "ديزني"، بحسب أرقام نشرتها عام 2021 مجلة ذا كومن ريدر التي تصدرها جامعة واشنطن في سانت لويس.
في موازاة هذا الاستثمار في الإعلام، تملك الشركتان حصصاً ضخمة في شركات تصنيع الأسلحة والطائرات الحربية والمعدات العسكرية. على سبيل المثال تملك فانغارد 9.15% من الأسهم في "لوكهيد مارتن" مقابل 7.51% لـ"بلاكروك"، بينما تملك الأولى 8.71% من أسهم RTX، مقابل 7.20% للثانية، كما تشير بيانات الشركتين على موقعيهما الإلكتروني.
هكذا تستغل شركتا الاستثمار الضخمتان المؤسسات الإعلامية للترويج للأسلحة التي تصنّعها الشركات الكبرى وتصدّرها لإسرائيل.
مثال آخر هو شركة أوراكل، وشبكة إيه بي سي (ABC). تملك إمبراطورية ديزني للترفيه والإعلام قناة ABC، لكن ما يثير الاهتمام هو أن أكبر مساهم في "ديزني" هي سافرا إيه. كاتز، سيدة الأعمال الإسرائيلية الأميركية والرئيسة التنفيذية لشركة أوراكل العملاقة.
تلعب "أوراكل" دوراً مهماً في المجال العسكري من خلال شراكتها مع أنظمة رافائيل الدفاعية المتقدمة، المصنّع الرئيسي للأسلحة في إسرائيل. تقدم "أوراكل" حلولاً تكنولوجية تتعلق بالحوسبة السحابية وتحليل البيانات التي تسهّل العمليات العسكرية على الأرض. هذه الحلول تمكن الجهات العسكرية من تحسين استراتيجياتها وعملياتها عبر دمج التكنولوجيا المتقدمة في الأنظمة الدفاعية على الأرض.
كل ما سبق ليس سوى عيّنة صغيرة، وأمثلة محددة عن سطوة شركات صناعة الأسلحة على الخطاب الإعلامي، خصوصاً خلال الحروب، لكن القرن الماضي مليء بأمثلة أخرى عن تداخل المصالح وخلق سردية إعلامية مشجّعة على العسكرة والمجازر، من أفغانستان إلى العراق، ومن أوكرانيا إلى غزة.