بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، مسافة شاسعة في الموقف من تجسيد الشخصيات الدينية المقدسة في الفنون المختلفة. لا يهدف هذا المقال إلى رصد أوجه التباين وأسبابه، وإنّما إثارة التفكر في الموضوع والمساهمة بإعادة طرحه للنقاش العام. جسدت الفنون الأوروبية الشخصيات المقدسة، ولم تجابه بمعارضة الكنيسة أو الجمهور، ولا سيما في عصر النهضة؛ فجسد ليوناردو دافنشي السيد المسيح في لوحته "العشاء الأخير"، وكذلك فعل مايكل أنجلو بنحت النبي موسى.
حضرت هذه الشخصيات، إيجاباً وسلباً، في السينما والدراما الغربية. وأثير نقاش حاد حول بعض الأفلام والمسلسلات، وصلت إلى حد المطالبة بمنعها، كما حصل مع فيلم "الإغواء الأول للمسيح" على "نتفليكس" بسبب تصوير السيد المسيح مثلي الميول، والسيدة مريم مدمنة حشيش.
في العالم الإسلامي، أفتى جمهور العلماء السنة، كما في فتوى دار الإفتاء المصرية والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، بحرمة تمثيل الأنبياء والمرسلين والعشرة المبشرين بالجنة وأمهات المؤمنين وبنات الرسول، وآل البيت لأنّهم "أعزّ من أن يمثل أو يتمثل به إنسان". أيضاً، معظم علماء الشيعة الاثني عشرية، رفضوا تجسيد الأنبياء وآل البيت وأئمتهم. وقد سألت مرة الشيخ محمد حسين فضل الله (مرجع لبناني توفي عام 2010) عن ذلك بمناسبة إنجاز تحقيق صحافي عن مسلسل "الحسن والحسين" فأجابني أنّه ما من نصّ يحرّم ذلك، لكنّهم لا يحبذون الأمر.
مع ذلك، فقد جرت محاولات درامية عربية وإسلامية لتقديم الشخصيات الدينية، وذلك بإطار تقديم سيرهم وعصورهم بشكل لا يعارض السردية التي يجمع عليها المسلمون. ولعلّ أبرز محاولة في الدراما العربية هي مسلسل "عمر" للمبدع الراحل حاتم علي. لم يكن سهلاً، حسب رواية المخرج حاتم علي أثناء نقاش لنا في بيروت، تجسيد الخلفاء الراشدين الأربعة وبقية العشرة المبشرين في الجنة، رغم إشراف علماء كبار على المسلسل، وفي مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي (الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مواليد 1926 في مصر)، والشيخ سلمان العودة (داعية سعودي مواليد 1956). حدثني الراحل حاتم عن جدالات امتدت طويلاً، وعن اعتراضات وشروط كثيرة، حتى ظهر المسلسل الذي بقيت تلاحقه فتاوى التحريم عرضاً ومشاهدة.
طاول التحريم فيلم "محمد رسول الله" للمخرج الإيراني مجيد مجيدي، وهو لم يقدم شيئاً جديداً للسرد التقليدي للسيرة النبوية عند مجموع المسلمين، من سنة وشيعة، غير بعض الإشارات التي تتصل بمذهب المخرج الشيعي، مثل أنّ عم النبي، أبا طالب، مسلم، ويركز على عداء بني أمية مع بني هاشم، وأنّ أبا سفيان زعيم متفرد بمعارضة النبوة. في حين لم يتم ذكر أسماء سادة قريش "الكفار" الآخرين، ومنهم أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم. ويقف الفيلم عند تمزيق معاهدة قريش بفرض حصار بني هاشم في شعب أبي طالب في العام العاشر للبعثة النبوية، بعد حصار امتد قرابة ثلاث سنوات. لا يظهر الفيلم وجه النبي محمد، وإنّما يكتفي بأن نشاهد قوامه وهو صغير، ونسمع صوته، لكنّه يُظهر ملامح كلّ من ظهر بالفيلم، ومنهم آمنة بنت وهب، والدة النبي. كلف الفيلم 40 مليون دولار أميركي، وبنيت لتصويره أحياء في طهران لتشبه بيوت مكة أثناء طفولة النبي، في حين صورت بعض المشاهد في جنوب أفريقيا. ويقول صانعو الفيلم إنّه جزء أول من ثلاثة أجزاء، وجميع ممثليه إيرانيون. لا أعتقد أنّ الجزأين الباقيين سيبصران النور، لا سيّما أنّ دعم الفيلم قد جاء من الحرس الثوري. ولذا، وجدنا المخرج يرثي قائد فيلق القدس، قاسم سليماني.
من أفلام مجيدي الأخيرة، فيلم "خورشيد" الذي يتناول عمالة الأطفال والمهمشين الإيرانيين واللاجئين الأفغان فيها، ويعكس معاناة 152 مليون طفل يُستغلون في عمالة الأطفال في العالم، بحسب تعبير المخرج. التقط مجيدي أطفالاً من الشارع، وجعلهم يمثلون الفيلم، وحاز واحد منهم، وهو الطفل "علي" زعيم عصابة الأطفال، جائزة مارسيلو ماستروياني بالدورة الـ 77 من مهرجان فينسيا الدولي 2020.
ليس هذا فيلم مجيدي الأول عن الأطفال ومعاناتهم؛ فقد سبق لفيلمه "أطفال السماد" أن وصل كأول فيلم إيراني لترشيحات أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1999.
والمفارقة، هنا: كيف يستقيم لمخرج مبدع مثل مجيدي أخرج أفلاماً بديعة عن مظلومية الأطفال، أن يرثي سليماني، وهو مساهم بقتل أطفال سورية وسواد مستقبلهم؟