دخلت نتفليكس مغامرة البرامج التفاعلية، في رهان على تعلقنا بالشاشات. وفعلاً، بدأت الأفلام تظهر تباعاً أمامنا، بأنواعها المختلفة: "المرآة السوداء"، و"كيمي شميت التي لا تهزم"، و"الطفل المدير". أعمال يمكن وصفها بالتجارب الممتعة، لكن لا يمكن استخدام صفة مذهلة؛ فهي أشبه بلعبة جديدة نجربها، نفرح بها، ثم ننساها. لكن نتفليكس دخلت السباق، ولن تتوقف.
هذه الصيغة التفاعلية التي تراهن على وعينا، وكيف تتدفق الحكاية أمامنا، لننغمس أكثر في "الشاشة"، أخذت شكلاً جديداً، إذ صدرت عن نتفليكس سلسلة Headspace Unwind Your Mind، التي تعتبر امتداداً للشركة التي تحمل ذات الاسم، التي تأسست عام 2010، وأطلقت عدداً من التطبيقات والبرامج والكتب، لتساعدنا على الاسترخاء، إذ يكون الفرد ممتلئاً بنفسه، وحاضراً ملء الوقت.
تقدم السلسلة نفسها بشكلها "اللطيف"، أو الـ cute، كأسلوب للاستراحة من تسارع الحياة، وأخذ مسافة مما يحدث، ليتأمل الواحد منا نفسه، سواء أراد النوم أو الاسترخاء، أو تخفيف التوتر؛ إذ عليه أن يحدّق في الشاشة، ويستمع إلى التعليمات، ويتنقل بين الخيارات المتاحة أمامه، تلك التي من المفترض أن تساعده وتعيد ترتيب أفكاره.
نكتب هنا بوصفنا ننتمي إلى كتلة بشرية قلقة، لم يسبق لها أن تعاملت مع هذه التقنيات؛ أي كمشاهد نتفليكس يهتم بما هو جديد ورائج، ويساعد على تمضية الوقت. نتبنى هذه الوضعية، كون السعي إلى "الاسترخاء"، أو الامتلاء بالذات، كان شبه مستحيل عند مشاهدة السلسلة، ناهيك بأنها على الشاشة. أي أننا، في النهاية، نحن أسرى عالم بديل يهيمن على وعينا، فكيف نثق بأنه قادر على ملئنا بذاتنا، وتحريض عضلات الاسترخاء، إن وُجد.
لا نحاول أن نكون ساخرين. لكن، أن نقرأ مثلاً أن استخدام/مشاهدة البرنامج لعشرة أيام يزيد العادة بمقدار 16%. قد تكون نسبة دقيقة، لكن لا نعلم بالضبط كيف تم التوصل إليها، بل لم نكن نعلم أن هناك مقياساً للسعادة أو الاسترخاء بالأصل. كما تَعدُ السلسلة المشاهد بأنها ستساعده على تجميع أفكاره، وتركيزها. لكن، هل نريد حقاً أن نجمع أفكارنا؟ ونحن، أي قرّاء اللغة العربيّة، نواجه وباء، ودكتاتوريات، وفقراً، واحتمالات بأن تنفجر العواصم تباعاً. أليس من يشاهد أمراً كهذا، هو أشبه بمن نراهم يمارسون اليوغا في سورية؟ نعم هنا نسخر، لأن المتأمل في ذاته، يجب بداية أن يكون مواطناً، وليس مجرّد "حياة صرفة"، يحاول أن يسد رمقه وأن ينجو بأقل أضرار ممكنة. أي أن هناك ضمانات لحياته، قبل أن يتجاوز نشاطه اليومي نحو أفكاره.
الأهم، أيضاً، أنه ما من ثقة لدينا في شاشة. هناك تخوف دائم مما يظهر عليها. الاستسلام الكلي لها يحرك الرعب فينا، حتى لو كنا نشاهد رسوماً كرتونيّة لطيفة، ونستمع إلى أصوات محببة تطلب منا الاسترخاء. غياب الثقة هذا سببه الوسيط نفسه، وتاريخه المشين. كيف يمكن أن نسلم أبصارنا وأسماعنا، بل وعينا، إلى شاشة وخوارزميات، لا نعلم بعد كيف يمكن أن تتحرك ضدنا، أو على الأقل تحاول إقناعنا بكل هدوء بما يجب علينا فعله.
نهايةً، وكما ذكرنا سابقاً، نشاهد السلسلة من وضعية قلقة، ساخرة بعض الشيء، تراهن على الخراب، وترى في النجاة الفرديّة شأناً مشيناً نوعاً ما. ربما، أيضاً، هناك خوف وطبقات من الأفكار المغلوطة، التي تغلق وعي بعض المشاهدين، خوف من الاستسلام للأفكار التي تختبئ في مؤخرة الدماغ، أو خوف من التخلي عنها. ربما هي "مغامرة"، كما نقرأ في وصف السلسلة، لكن إلى أي حد يمكن الرهان عليها، إذ لسنا أمام "مُنتج" فرديّ، بل نحن في مواجهة نمط حياة متكامل، قد يبدأ بالمشاهدة، وينتهي بتغيير الكثير من العادات، وإعادة النظر في الوقت وكيفية تقسيمه؛ الأمر الذي ربما قد يشغلنا عما يحدث على "الشاشات" نفسها، أو يبعدنا عنها نهائياً.