قد تكون مفاجأة سارّة اكتشافك أنّ الحمام الزاجل لا يزال يرفرف في سماوات القرن الواحد والعشرين، ويحلّق فوق سماء العالم العربي. لكنّ المفاجأة الكبرى معرفة أنّ الحبّ هو المحفّز الأقوى لهذه الطيور الفريدة كي تعود إلى مسكنها، وهو الذي يوجّه بوصلتها، التي نادراً ما تخطئ مكان أحبّتها.
وإذا كان الشتاء موسم سبات وراحة بالنسبة إلى الكثير من الحيوانات، يُعدُّ شتاء الجزيرة العربية الدافئ موسم النشاط والتنافس لطيور الحمام الزاجل. إذ تشهد الفترة الممتدّة من منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني حتى منتصف مارس/ آذار سباقات أسبوعية محلية ودولية لهذه الطيور المتميزة، تُقاد خلالها تحت اشراف رسمي إلى نقاط انطلاق محدّدة، وتطير منها نحو مساكنها الأولى.
وقد انشغلت الأوساط العلمية طويلاً بسرّ عودة الحمام الزاجل إلى مكانه الأوّل، وكثرت الترجيحات، منها الحقل المغناطيسي للأرض وحركة دورانها حول الشمس وغيرها... وكان آخرها ما بيّنته دراسة نشرتها "يوروبيان جيوساينس يونيون" من أنّ المعلومات التي تحدّد خريطة الحمام هي الروائح والتيارات الهوائية ومواد عضوية وكيماوية موجودة في الجوّ. لكن ما يؤكّده هواة الحمام ومدرّبوه أنّ "الحبّ والغيرة" عاملان مهمّان في تحفيز الحمام الزاجل للعودة الى دياره بسرعة وكسب السباق.
كيف؟
تنتشر في دول الخليج العربي جمعيات هواة الحمام الزاجل وأنديتهم، ويخصّ الخليجيون هذه الطيور بإعجاب كبير، فهم يقدّرون جمال ريشها وعيونها، وارتفاع قفصها الصدري وبروز عظامه - التي هي دلالة قوة وأصالة - ويلمسون فيها "خصالاً عربية أصيلة" من نبل وإيثار ووفاء وتقدير للحياة الأسرية. كما يقدّرون نسل كلّ منها، ويميّزون السلالات التي فازت في السباقات والمزادات، كما يصدرون شهادات ميلاد ونسب لكلّ منها.
في زيارة إلى الجمعية القطرية لهواة الحمام الزاجل في الدوحة، شرح لنا عدد من الهواة وأعضاء المكتب الإعلامي طرائق تحفيز سرعة هذه الطيور، وبعض أسرار قلوبها.
المنزل النظيف والطعام الجيّد من أهمّ عوامل إغراء الحمام بالوفاء لمسكنه والعودة اليه، كذلك حالته الأسرية. يسرع الطائر المتزوّج في العودة من أجل شريكه، واذا كانت هناك فراخ تنتظره فإنّ هذا يزيد فرص فوزه في السباق، اذ يُعرف عن الحمام الزاجل احتضانه لفراخه وتعلّقه بها.
كذلك يُعرف عنه أنّه شديد الغيرة على شريكه، فيستثمر الهواة هذه النقطة في مبارياتهم التنافسية، وذلك من خلال تزويج الحمام ووضع كلّ زوجين معاً لفترة، ثم فصل الذكور عن الإناث عبر إبقاء أحدهما في مسكنه وأخذ الثاني للسباق، لضمان أن يعود بسرعة الى شريكه.
أو يعمدون الى طريقة أكثر قسوة، فلا يكتفون بفصل الزوجين، بل يضعون حمامة غريمةً مع أحدهما أمام ناظري الآخر. تتولّى قضبان الأقفاص الفصل بينه وبين غريمه، وتتولّى الغريزة اشعال غيرته الجنونية، التي تضمن عودته في أقصى سرعة يوم السباق.
يوجز رئيس اللجنة الاعلامية في الجمعية، فيصل العكبري، مراحل السباق كالتالي: "قبل السباق يجري تسجيل هذه الطيور وادخال شيفراتها الى نظام المسابقة عبر ساعة إلكترونية خاصة، ثم توضع في قوائمها "الحجول"، وهي أجهزة متصلة بالكمبيوتر(gps) لترصد حركتها وسرعتها وكم ميلاً قطعت. تؤخذ الطيور في اليوم التالي في سيارة خاصة الى الـ"لوفت"، وهي نقطة انطلاق ثابتة للسباقات".
ويتابع العكبري في حديث لـ"الجديد": "بعد اطلاق الطيور تتّجه الى مساكنها الأولى، التي تزرع الجمعية فيها أجهزة متصلة بالكمبيوتر تحدد لحظة وصولها. وأخيراً يجري تحديد سرعة كلّ طائر عبر قسمة المسافة على الزمن لتُعرف سرعة كلّ طائر ويتمّ اعلان الفائز".
في المسابقات المحلية تكون الجوائز متواضعة، لكنّها تصل الى ملايين الدولارات في المسابقات الدولية، كما في سباق نقطة جنوب أفريقيا (مليون دولار) وسباق نقطة الصين (5 ملايين يورو).
لم يمرّ الحمام الزاجل عرضاً في سماء تاريخ البشرية. نقل رسائل الحرب والحبّ، رفرف فرحاً في المناسبات السعيدة، استعرض جماله وأصالته في المزادات، زيّن قصور الأثرياء والملوك حتى عُرفت هواية تربيته بـ"هواية الملوك"، وحيّر العقول بغريزة عودته إلى مسكنه الأوّل التي اعتبرت لزمن طويل احدى معجزات الطبيعة.
اليوم، رغم التشويش المتعمّد وغير المتعمّد على بوصلة الحمام الزاجل، ورغم التلوّث والتصحّر وارتباكات البيئة، ورغم عدم اهتمام البشر بتناقل المراسلات عبر الحمام، تصرّ هذه الطيور الجميلة على توصيل رسالة أخيرة لنا، مفادها أنّ "الحبّ" ليس فقط محفّزاً للحياة والبقاء، بل هو أيضاً معجزة الحياة والطبيعة.