الزُبارة... قصة "مدينة تجارية طارئة"

09 أكتوبر 2023
عُمر قلعة الزُبارة لا يزيد على 85 عاماً (حسين بيضون)
+ الخط -

قطعنا مسافة تزيد على المائة كيلومتر شمال غرب الدوحة لزيارة أطلال مدينة عمّرت بسرعة وازدهرت قرابة خمسة عقود منذ ستينيات القرن الثامن عشر، ثم انطفأت بسرعة بفعل الغزوات القبلية وحروب القوى المتصارعة.
هذه هي مدينة الزُبارة التاريخية، وقد صادفت أخيراً الذكرى العاشرة لإدراجها على قائمة "يونسكو" للتراث العالمي عام 2013، بعدما ظلت زمناً طويلاً خارج اهتمام الدوائر العلمية، لتكشف مجالات البحث الأثري والاجتماعي والأدبي عن مدينة حيوية خاضت مغامرة ناهضة واعدة خدمتها المصادفات ولم يخدمها الحظ.
ولعل أبلغ وصف للزبارة ما قاله المؤرخ الشيخ حسن بن محمد آل ثاني "المدينة التجارية الطارئة". وهي بهذا سردية غنائية مقطوعة كان يمكن أن تستمر فتكون حالياً مدينة كبيرة أو متواضعة في مجتمعات تتغير.

مدينة مهجورة

الواقع الذي حكم به التاريخ كان باختصار يهدي لنا وللتراث الإنساني مدينة مهجورة غطتها رمال الصحراء، وهكذا حافظت على أصالتها العمرانية بما لا يضاهيه مكان آخر في منطقة الخليج.
لذلك تتمتع الزُبارة بأهمية كبيرة، ففي الوقت الذي عاشت فيه أوج ازدهارها بين سبعينيات القرن الثامن عشر وتسعينياته وعاصرتها مدن تجارية أخرى في أنحاء الخليج العربي كافة، اندثرت جميع تلك المدن وزحفت عليها مدن حديثة وبقيت الزبارة وحكايتها محفوظة تحت الرمال.
ودائماً تُحسب مساحتها تاريخياً على وجه تقريبي، إلا أن الموقع الذي نزوره هو مركزها الأهم، وهو أكبر موقع أثري في قطر بمساحة محددة بـ60 هكتاراً (600 ألف متر مربع).

خراب البصرة

نشأ الموقع عبر مصادفة تاريخية قد يلخصه المثل الدارج "خراب البصرة عَمار الزبارة"، فقد ضرب الطاعون مدينة البصرة، ما دفع سكانها إلى هجرتها، كما احتلها الفرس عام 1757، ما دفع عدداً من كبار القوم، يُرافقهم عدد من تجارها، إلى اللجوء إلى القرين (الكويت) ومنها إلى قطر ليستقروا أخيراً في الزُبارة بعيداً عن بُؤر التوتر والوباء، وأدى ذلك إلى عمرانها.
وفي ما يورده المرجع الأشمل حتى الآن، والذي صدر العام الماضي بعنوان "الزُبارة مدينة التراث العالمي في قطر" وشارك فيه مؤرخون وآثاريون عرب وأجانب، فإن المراحل الأثرية الست في المدينة منذ أواسط القرن الثامن عشر تبدأ بالخيام والأكواخ البسيطة وتنتهي إلى مضارب شتوية على طول الشاطئ، ما يشير إلى أن الزُبارة لم تكن خالية من السكان، لكن انطلاق المدينة كان سببه هذه الهجرة، وهي ليست هجرة نازحين بل رؤوس أموال ومصالح تجارية اختارت هذا المكان بالتحديد. 
هذا يعني أن الظرف القاهر الطارد من البصرة والكويت في ذلك الوقت لم يكن هو العامل الحاسم، بل ثمة عامل اقتصادي قائم على اللؤلؤ، وكانت المنطقة الشمالية من قطر معروفة منذ القرن العاشر الميلادي بحيودها الغنية باللؤلؤ ذي الجودة العالية، وفق الكتاب السابق ذكره.
ويسجل التاريخ وجود شخصية هامة في تاريخ الزبارة، وهي أحمد بن رزق، أحد أثرى تجار الخليج، الذي له سهم فاعل في تعمير ذات الموقع الإستراتيجي بين البحرين والأحساء، فضلاً عن مزايا مينائها الطبيعي، كما يورد الباحث محمد همام فكري في إحدى دراساته.
أصبحت المدينة ظاهرة بتنظيم مدني وأسواق وجوامع وشوارع وقلعة ساحلية وسور خارجي هلالي الشكل فيه 23 برجاً، واستقطبت علماء دين وشعراء ومؤرخين.

لؤلؤ الهند

وفي واحدة من رسائل ويليام لاتوش، المقيم البريطاني في البصرة، الموجهة إلى مجلس مديري شركة الهند الشرقية في لندن، إشارة إلى مدينة كانت قائمة، انتقل إليها ابن رزق "مع نفر كبير من سكانها المرموقين، إلى الزبارة، وكذلك لجأ إلى نفس المكان بعضُ تجار البصرة، وبسبب حصارِ البصرة وما نجم عنه، تحول الكثير من لؤلؤ الهند وتجارتها إلى ذلك المكان (الزبارة)".
خلال نشأة المدينة، لم تسلم من الغزوات والحروب، لكن أقساها كانت تلك التي وقعت عام 1811 بين سلطان عُمان والوهابيين الذين سيطروا على الزبارة، فدمرت غالبيتها وأحرقت، وشهدت المنطقة عودة تدريجية لكن من دون ذلك الازدهار الذي كان، حتى تعرضت لتدمير آخر عام 1895 بمدافع الأسطول البريطاني.
ما إن أطل القرن العشرون حتى هُجرت الزبارة ودُفنت تحت الرمال، واتجهت كتلتها السكانية إلى الساحل الشرقي في الدوحة والبدع، قبل أن تعيد إحياءها البعثات الآثارية منذ ثمانينيات القرن الماضي.

قلعة الزبارة

حين تصل الحافلة إلى تلك المنطقة الصحراوية الفارغة على الخليج، تبتعد وراءنا صور المزارع الخضراء المسيجة والأماكن الحضرية العامرة بالسكان في مدينة الشمال، وتلوح مباشرة قلعة الزُبارة، وهي قلعة تضاف إلى سردية الزُبارة ولكنها ليست ضمن متن التاريخ الذي ارتفع وهوى في مدينة اللؤلؤ والتجارة.
عُمر القلعة لا يزيد على 85 عاماً وقد أمر ببنائها الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني عام 1938 لحماية ساحل قطر الشمالي، وكانت مدينتنا التي نسعى إليها مطمورة تحت الرمال في ذلك الوقت.

أما اليوم، فالقلعة المربّعة وكل ضلع منها 25 متراً وببوابتها الوحيدة، إضافة لما تمثله من معلم تراثي، تضطلع بمهمة بتوفير خدمة التعريف بالموقع الأثري عبر مركز للزوار احتل مكان الغرف المصفوفة حول الفناء، بينما تنتظرنا في الساحة الخارجية حافلة حديثة لتنقلنا مسافة 2,5 كيلومتر إلى حيث الزُبارة.

أطلال المدينة

ما تبقى من المدينة معالم يصل ارتفاع أقصاها إلى مترين. وبما هي أطلال، قررت هيئة متاحف قطر عدم التدخل في رفع البنيان، ومع ذلك، تظل الخريطة المعمارية كافية لإعطاء صورة واضحة عن مكان كان يضج بالناس.
هنا بيت كبير محصن لأحد أغنياء الزُبارة، وفيه أفنية منفصلة تصطف حولها مطابخ وغرف معيشة وحمامات مكسوة بالجص.
وعلى الممشى الخشبي المتعرج، نقطع مسافة ثلاثة كيلومترات ونطالع أطلال الجوامع والسوق بجوار البحر وفيه آثار حرف الحدادة وصناعة الزجاج.
والبحر أمامنا يكشف جَزره عن أرض خشنة داكنة يسمونها هنا "البطح"، بينما سرب طيور مائية يحلق على ارتفاع منخفض، وفي البر حول المدينة، بقايا سور هلالي الشكل بأبراجه الثلاثة والعشرين المكلفة بحراستها.
ونسأل عن الميناء الذي حمل عبئاً كبيراً في سيرة المدينة، فيشير الدليل السياحي إلى منطقة بحرية على الطرف البعيد عن هذه المساحة المنبسطة "البطح"، والتي يحدد هويتها المد والجزر.
والأغنياء من تجار ذلك الزمان وأصحاب السلطة يحرصون، كما باقي السكان، على وجود مدبسة تمر، حيث لم يخل بيت في الزُبارة من المدبسة، إذ جرى اكتشاف مدابس في القصور ومنازل المدينة وبيوت الصيادين، وبأعداد كبيرة في السوق. 
كانت أكياس التمور توضع فوق أرضية جصية مُحددة، وتكدّس بعضها فوق بعض في كومة ضخمة قد يزيد ارتفاعها عن مترين والتمور متراصة تحت ثقل وزنها، التي يسيل منها الدبس.
كما انتشلت الآلاف من قطع المصنوعات اليدوية الخزفية، ومنها المصنوع محلياً وأغلبها مستورد من مناطق خليجية وأبعد، وكان حطب الوقود يأتي من لنجة، والسكر والقماش من مومباي والبنغال، والسجاد من فارس، والبن من عُمان، عبر مختلف أنواع السفن التي عثر على نقوشها في الجدران.
الاكتشافات
ما زال الموقع مفتوحاً لمزيد من الاكتشافات، بعد فترة سكون تلت الجهود المحلية بين عامي 1981 و1983 للاكتشافات التي كانت تأسيسية ومتواضعة مقارنة بما أنجز بعد عام 2000.
واكتمل ملف المدينة ليتلاءم مع شروط يونسكو بعد حصيلة الحفريات من عام 2002 حتى 2005، العام الذي تأسست فيه هيئة متاحف قطر.
والعمل الأحدث عهداً منذ عام 2009، والذي تم من خلال الشراكة بين هيئة متاحف قطر وجامعة كوبنهاغن، قد توسع كثيراً في الأبحاث داخل المدينة، في حين امتد البحث في قاعدة الموارد وبيانات سمات الاستيطان الموجودة في بر الزُبارة الداخلي الواسع.
هذه الخبرة المتراكمة في الموقع نجم عنها تدريب المتطوعين على أعمال التنقيب والصيانة والترميم في مدينة الزُبارة بالتعاون مع يونسكو، ومن ذلك فعالية 2016 بعنوان "متحدون من أجل التراث"، كما يخبر "العربي الجديد" فيصل النعيمي، مدير إدارة الآثار في متاحف قطر.
ثم تولى فريق محلي تابع لمتاحف قطر في عام 2016 تنقيبات في منطقة المدابس، وتدريب المتطوعين، وأكمل الفريق أعمال التنقيب في عام 2021.

حظ التنقيب

والتنقيب كما يفيد النعيمي حالفه الحظ، "إذ إن بعد المكان عن المشروعات التنموية جعل الرمال التي غطت المكان تحفظ لنا هذا المكان حتى تكشف عنه فرق التنقيب لإظهار الوجه الحضاري لمدينة الزُبارة وقيمتها الاستثنائية، التي أهّلتها للإدراج على قائمة التراث".
وأفادنا النعيمي بأن صيانة الموقع اقتضت دراسة المباني من حيث مواد البناء المستعملة واستخدام المواد ذاتها التي عرفت في ذلك الوقت، للحفاظ على الطابع الأثري طبقاً للمعايير الدولية لدى منظمة يونسكو، بوجود لجان متابعة من قِبلها لمراقبة هذه الأعمال.
 

دلالات
المساهمون