منذ 12 مارس/ آذار 2020، أغيبُ كلّياً عن مُشاهدة الأفلام في صالاتٍ سينمائية في بيروت. السفر ممنوع. العودة إلى المدينة تحدث قبل 3 أيام فقط على ذاك التاريخ، بعد زيارة عائلية إلى بلجيكا، وحضور الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي".
الفترة السابقة تَحرمُ كثيرين من الصالات والمهرجانات. إعادة فتح صالاتٍ عدّة في بيروت، في فترات متقطّعة، تحثّ على مُشاهدةٍ فيها، وهذا حاصلٌ مرّتين فيها. الإقامة في إسطنبول (5 أغسطس/ آب ـ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) تُتيح مشاهدة في الصالة مرّتين اثنتين أيضاً، فاللغات الأجنبية (باستثناء الإنكليزية والفرنسية، وهاتان نادرتان) عائقٌ، كالدبلجة إلى التركية. حضور الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" يتعطّل لسببٍ شخصيّ، فأعود إلى بيروت سريعاً من دون مشاهدة فيلمٍ واحدٍ في الصالة. المرّة الأخيرة في بيروت تحدث في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2021، لمُشاهدة "قصّة الحيّ الغربيّ" (2021) لستيفن سبيلبيرغ.
يُثير الفيلم متعة مُشاهدةٍ. هذا مؤكّد. أفلام سبيلبيرغ، متنوّعة الأشكال والأساليب والمواضيع والمعالجات، تمنح مُشاهديها متعاً مختلفة، لبراعةٍ فائقةٍ في صُنع مشهديات بصرية تحمل، رغم تجاريّة بعضها، رسائل وحالات وانفعالات، وهذه تدعو إلى نقاشاتٍ كثيرة. نسخته من الكوميديا الموسيقية المشهورة، ذات العنوان نفسه (1957)، لليونارد برنشتاين وستفن سوندهايم وآرثر لورنتس، ومن الفيلم المقتبس عنها بالعنوان نفسه أيضاً (1961)، لجيروم روبنز وروبرت وايز، تمنح شيئاً عميقاً من صفاءٍ وسكينةٍ، رغم عنف حارات وشدّة نزاعات، وقوّة حبّ يُشعِل مزيداً من عنفٍ يؤدّي إلى موت. الصُور والألوان وحركة الكاميرا واللوحات الاستعراضية والأغنيات مسائل تُناقَش نقدياً، لكنّ الفيلم ـ الفاشل تجارياً، فإيراداته الدولية تساوي 40 مليوناً و269 ألفاً و174 دولاراً أميركياً فقط، في مقابل 100 مليون دولار أميركي ميزانية إنتاج ـ يفتح ثقباً في عتمة الصالة، ويحوّل المقاعد إلى ساحة مليئة بتمرّد شبابيّ، معطوف على عنصرية وعلاقاتٍ وحبّ ورقصات وسلطات، كثيرٌ منها يعكس حالة أميركية راهنةً.
خارج النقد والتحليل، هناك تجربة مُشاهدة فيلمٍ في صالة خالية كلّياً من المُشاهدين. باستثناء مُشاهدٍ واحد ـ يدخل الصالة بعد نصف ساعة على بداية "قصّة الحيّ الغربيّ"، ثم يُغادرها بعد نصف ساعة أخرى، ما يُوحي بأنّه ربما يكون موظّفاً في المجمّع السينمائي ـ تخلو الصالة من المُشاهدين، فيحلو لي التمتّع بهذا الفضاء الصامت من كلّ إزعاج يُحدثه مُشاهدو الصالات التجارية. تمتّع يتفوّق، وإنْ للحظاتٍ، على مُتعة المُشاهدة بحدّ ذاتها، ومُتعة الفيلم نفسه، ومُتعة التعمّق في كلّ ما يصنعه مخرج أميركي كستيفن سبيلبيرغ.
خُلوّ الصالة كلّياً يثير مُتعةً، يكاد يستحيل وصفها. متفرّجو الأفلام التجارية، وبعضهم يدّعي هياماً بالسينما ونتاجاتها، لا يأبهون بما يُفترض بهم التزامه عند مُشاهدة فيلمٍ في صالة. هذا يحول دون تردّدي على الصالات منذ أعوامٍ طويلة، ودون مشاركتي زملاء مهنة في عروضٍ صحافية قديمة، فسلوك بعض الزملاء في الصالة أسوأ من سلوك متفرّجي الأفلام التجارية، وأسوأ من سلوك بعض مُشاهدي أفلام "صالة فنّ وتجربة": ثرثرة، اتصالات هاتفية خلوية، تناول الـ"بوشار"، احتساء مشروبات غير روحية، حركات لا تهدأ، إلخ.
الجلوس في وسطِ صالةٍ معتمة، يُلوّنها اشتغال سبيلبيرغ في سرده تلك القصّة، والفراغ الممتع الذي يصنعه غياب المتفرّجين، يسمحان بتنبّه أكبر وأعمق وأهدأ وأجمل إلى الشاشة الكبيرة. كأنّ الصالة الفارغة غرفة منزلية، تمتلئ دفئاً وسكينة وعزلة، وهذه كلّها تحصِّن المُشاهدة من أي عطبٍ أو حركةٍ، أو حتّى تنفّسٍ، تُربك المُشاهدة وتُشوِّه اندماجاً بها، وتُعطِّل استسلاماً لعطاءات الشاشة الكبيرة.
لكنّ تجربة كهذه يندر أنْ تحصل أكثر من مرّة. لذّة اكتشاف أسرارها والإحساس بمتعها تنبع من عيشها للمرّة الأولى، ولمرة واحدة. اللذّة تختفي لاحقاً، وجمال عيش التجربة ثانيةً يضمحل، فكلّ هذا حاصلٌ، ولن تكون المرّة الثانية مفاجئة وحلوة وممتعة كالمرّة الأولى.
في 30 عاماً في مهنة النقد السينمائي، يحصل هذا للمرّة الأولى. لذا، سيبقى 14 ديسمبر/ كانون الأول 2021، بالنسبة إليّ، أجمل مُشاهدةٍ سينمائية.