الصحافيون المستقلون في لبنان... معاناة يفاقمها العدوان الإسرائيلي

25 أكتوبر 2024
صحافيون يغطون قصفاً إسرائيلياً على ضاحية بيروت الجنوبية، 4 أكتوبر 2024 (حسين بيضون)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه الصحافيون اللبنانيون تحديات كبيرة في تغطية العدوان الإسرائيلي، بما في ذلك النزوح والعمل في ظروف خطيرة، مع غياب الضمانات التقليدية، مما يزيد من صعوبة عملهم.
- يعاني الصحافيون المستقلون من تدهور الأوضاع الاقتصادية والإعلامية، حيث يضطرون للعمل بشكل مستقل مع تراجع الأجور وفقدان الضمانات الاجتماعية، مما يزيد الضغوط النفسية.
- تقدم منظمات مثل "سكايز" و"مراسلون بلا حدود" الدعم من خلال توفير معدات الحماية والتدريب، وإطلاق مبادرات لجمع التبرعات، لكن الطلب على المساعدات لا يزال كبيرًا.
مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال الأسابيع الماضية، تحوّل عددٌ كبير من الصحافيين من العمل اليومي العادي إلى التغطية الميدانية، إن كان من داخل مناطق الخطر في جنوب لبنان والحدود المتاخمة لدولة الاحتلال، أو من العاصمة والمناطق التي نزح إليها المواطنون بصفتها أقل خطراً من غيرها.
يعمل الصحافيون اللبنانيون اليوم في ظروفٍ معقدة وخطيرة، إذ اضطر الكثيرون منهم للنزوح من منازلهم، كما خسر جزءٌ منهم أفراداً من عائلاتهم وأقاربهم. في الوقت نفسه، يضطر هؤلاء إلى بذل جهدٍ مضاعف في زمن الحرب من أجل نقل آخر التطورات الميدانية وجمع المعلومات حول تطور الأحداث، مع عدو أثبتت التجارب الطويلة أنّه لا يميّز في قصفه بين مدني وعسكري.
هكذا وجد العديد من الصحافيين اللبنانيين، منذ نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، أنفسهم معرّضين للخطر كغيرهم من السكان. في تقرير صادر في 11 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، حذّرت منظمة مراسلون بلا حدود من أنّ الصحافيين في لبنان "يواجهون خطراً كبيراً وضغوطاً عالية بشكل يتزايد يوماً بعد يوم، علماً أن البعض منهم نجوا بصعوبة من القصف الإسرائيلي وأُجبروا على إخلاء منازلهم، حيث يعانون من صدمات نفسية شديدة جرَّاء حرب يحاولون جاهدين الاستمرار بتغطيتها"، كما نبّهت إلى أنّ "سلامة الصحافيين على المحك في جميع أنحاء البلاد، ففي المناطق التي تعرَّضت للقصف من قبل الجيش الإسرائيلي، كان النزوح الجماعي مصير مُعظم السكان، بمن فيهم أهل مهنة الصحافة".
كانت رنا نجار واحدة من صحافيات وصحافيين كثر اضطروا إلى ترك منازلهم. غادرت المراسلة منزلها في منطقة الجية بعد تعرضها للقصف وانتقلت إلى بيروت، لكن اشتداد وتيرة العدوان دفعتها للنزوح مع أسرتها مجدداً إلى إهدن، شمالي لبنان. فرض ذلك عليها القيادة لساعات طويلة من شمال لبنان إلى جنوبه، وصعب عليها اللقاء بابنتها الوحيدة.
هذا الوضع الصعب الذي يعيشه الصحافيون بالمجمل، تظهر انعكاساته بشكل أوضح على الصحافيين الذين يعملون بشكل حرّ من خلال التعاون بشكل مستقل مع منصات ووسائل إعلامية مختلفة، خاصةً أنّهم يفتقرون لبعض الضمانات والمميزات التي يوفرها الانتساب بشكل واضح لمؤسسة صحافية.

الصحافيون المستقلون في أزمة

شهد لبنان طوال السنوات الماضية تراجعاً كبيراً في المجال الإعلامي، إذ أدى تناقص التمويل والأزمات السياسية إلى إغلاق عددٍ من المؤسسات الصحافية والإعلامية، في ظل موجة عالمية تراجعت خلالها الصحافة التقليدية لصالح منصات التواصل الاجتماعي. أرخى ذلك بأعباء قاسيةً على كاهل الصحافيين الذين وجدوا أنفسهم في أحيانٍ كثيرة عاطلين من العمل، من دون توفّر فرص أو وظائف بديلة. مع انفجار الأزمة المالية في أواخر العام 2019، وإفلاس المصارف وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وبعدها جائحة كوفيد-19 والقيود المرافقة لها، ازدادت حالات الاستغناء عن الصحافيين في ظل سعي المؤسسات لعصر النفقات والتوفير.
كانت نتيجة ذلك اتجاه عدد كبيرٍ من الصحافيين إلى التعاون مع مؤسسات إعلامية محلية وأجنبية من خلال إعداد تقارير أو كتابة مقالات بشكل مستقل لقاء مبالغ معينة أو مقابل أجر عن كل مشروع على حدة. اضطرت الصحافية والمراسلة رنا نجار إلى الانتقال للعمل بشكل مستقل بعد إغلاق المؤسسة التي كانت محررة فيها. وهو الأمر نفسه بالنسبة للصحافية والمنتجة التلفزيونية زينة برجاوي.
تلفت نجّار إلى أنّ الانهيار الاقتصادي أدى إلى تراجع أجور الصحافيين والبدلات المالية التي يحصلون عليها بشكل كبير، إضافةً إلى خسارتهم أموراً أساسية، مثل الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. بحسب نجار، التأثير المباشر للحرب هو "مزيج من التوتر والغضب والقلق على العائلة"، إضافةً إلى الإرهاق الناجم عن الاضطرار إلى العمل في ظل القصف مع الحاجة إلى مضاعفة الجهد المبذول لإنتاج تقارير لجهات مختلفة تتعاون معها. مع ذلك، تصرّ الصحافية على أنّ هذه المشاكل لا تغيّر حقيقة شغفها بالعمل الميداني.
وهو أمرٌ توافقها فيه برجاوي، التي تلفت إلى أنّها امتلكت خيار الرحيل عن البلاد، لكنّها فضلت البقاء للعمل في تغطية أحوال النازحين من المناطق الأكثر عرضةً للخطر.
الأمر نفسه يعبّر عنه الصحافي نبيل مملوك، فهو المراسل الوحيد الموجود بشكل دائم في منطقة صور، جنوبي البلاد، رغم تعرضها لقصف إسرائيلي عنيف ومكثّف.

مشاكل متعددة

يتفق الصحافيون المستقلون على اختلاف التغطية الميدانية وشروطها خلال الحرب عن الأيام العادية. ترى برجاوي أنّه من "الضروري معرفة قواعد تغطية الحروب، بغض النظر عن وجودك في موقع الخطر أم لا، مثل احترام حقوق الناس ومشاعرهم وخصوصيتهم وطرق تصويرهم. كما يجب الحفاظ على الموضوعية". فيما تلفت نجار إلى أن الصحافي في الحرب "مجبر على العمل طوال 24 ساعة، وهو ما يعني تنازلات في ما يتعلق بصحتك وغذائك وحياتك اليومية"، وهو ما تؤكد عليه برجاوي بالقول إنّه "في أيام الحرب لا يوجد وقتٌ للراحة على عكس أيام السلم". تضيف: "ازدياد الضغط النفسي عاملٌ مؤثر أيضاً علينا نحن الصحافيين، لكن يجب علينا مواجهته، خاصةً أنّنا في حرب لا يمكن التنبؤ بمسارها. يجب أن نكون صبورين، وأن نعمل بعقلانية وموضوعية".
تنبّه نجار أيضاً إلى وجود مسؤولية أكبر على الصحافيين بسبب التدفق الكبير للأخبار الكاذبة، وتشدّد على ضرورة التأكد من المعلومات الواردة لكثرة الشائعات والمعلومات المضللة بشكل يفوق بأشواط حرب تموز/ يوليو 2006، السابقة على عصر تطبيقات المراسلة وشبكات التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، تتحدّث نجار عن وجود عقبات تقنية وعملية عديدة، وتشير إلى أنّ أهم المشاكل التي واجهتها بصفتها صحافية ميدانية في العدوان تتمثل بعدم امتلاكها خوذة ودرع الصحافة، وهو الأمر الذي اضطرها في البداية إلى التصوير من دون اتخاذ هذه التدابير الوقائية في الضاحية الجنوبية لبيروت، قبل أن تنجح لاحقاً في تأمين درع وخوذة من خلال تجمع نقابة الصحافة البديلة ومركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز). أيضاً، تستعمل الصحافية سيارتها الخاصة للتنقل من مكان إلى آخر بعدما ألصقت عليها كلمة PRESS للإشارة إلى وظيفتها الصحافية، لكنها ترى في الوقت عينه أنّه "لا توجد ضمانات مع إسرائيل، إذ يمكن أن نتعرض للقصف في أي يوم"، مستعيدةً ما جرى مع مصوّر وكالة رويترز عصام العبدالله الذي كان يرتدي درعاً صحافياً وموجوداً بجانب سيارات صحافية رسمية لوكالات عالمية، مثل رويترز وفرانس برس، من دون أن يردع ذلك جيش الاحتلال عن قصفهم واستشهاده في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
يوافق مملوك، الموجود في منطقة تشن عليها قوات الاحتلال غارات مكثفة يومياً، على حقيقة أن قوات الاحتلال لن تتورّع عن استهداف الصحافيين، لكنّه في الوقت نفسه يشير إلى أنّه لا يملك سترة واقية من الرصاص أو خوذة، لافتاً في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن حياته تعرضت للخطر أكثر من مرة خلال الفترة الماضية، كان في إحداها يعمل منسقاً مع قناة العربية. وشدّد المراسل على حاجته الملحة للحصول على معدات السلامة اللازمة التي لا يستطيع تحمل كلفتها بنفسه، "فصحيح أن قوات الاحتلال لا تراعي هذه الشروط في استهدافها الصحافيين، لكنني بذلك أؤدي واجبي تجاه نفسي على الأقل"، حسب قوله.
وعلى الرغم من وجودهم في أماكن خطيرة لنقل وقائع العدوان، إلا أنّ المؤسسات المتعاونة لا توفّر أي نوعٍ من التأمين الصحي أو الضمانات للصحافيين المستقلين في حال تعرّضهم للإصابة، كما أنّهم لا يملكون أي حماية في حال مواجهتهم مشكلة مع أي جهة حزبية أو أمنية في ظل التوتر المسيطر على البلاد، بحسب نجار.
كذلك، لم تأخذ معظم المؤسسات المحلية أو الأجنبية بعين الاعتبار المخاطر المحدقة بالمتعاونين معها لتعديل البدلات المالية والتي بقيت على حالها. كما سلط مملوك الضوء على مشكلة أخرى تتعلق بالمعاناة للحصول على البدلات المالية، إذ تستغل بعض مكاتب التحويلات المالية حالة الفوضى والحاجة في البلاد لاستقطاع نسبة من أموال الصحافيين المحوّلة عبرها من دون وجه حق. كما لفت الصحافي الموجود في جنوب لبنان إلى الصعوبات التي يعانيها جراء التقطع في شبكتي الاتصالات والإنترنت، وهو ما يعوقه أحياناً عن إرسال المحتوى الصحافي، وعن قدرته على الاطمئنان على من يعرفهم في مناطق العدوان. 

غياب رسمي وجهود مستقلة للمساعدة

يعاني الصحافيون المستقلون من إهمال تام من الجهات الرسمية، إن كان من الحكومة اللبنانية أو وزارة الإعلام، وحتى من نقابة محرّري الصحافة اللبنانية. في التاسع من أكتوبر، أصدرت النقابة الرسمية بياناً أعلنت فيه إطلاق حملة تبرعات لدعم "الصحافيين المنتسبين إليها الذين تهدمّت منازلهم كليّاً وتضرّرت سياراتهم ونزحوا إلى مناطق بعيدة عن أماكن سكنهم وما يكبدهم ذلك من نفقات لا قدرة لهم على تحمل أعبائها في ظلّ أوضاع متفجرة قد يطول أمدها".
لكن هذه المبادرة موجهةً حصراً إلى الصحافيين المنتسبين إلى النقابة، والذين يقدر مجموعهم بألف صحافي، علماً أنها متهمة بأنها محسوبة على السلطة السياسية، وبأنها لا تفتح باب الانتساب إليها إلّا للمرضي عنهم.
من جهة أخرى، شارك تجمع نقابة الصحافة البديلة مع المراسلين والمصورين والمنسقين (fixers)، الذين يعملون بشكل مستقل أو تعاقدي مع المؤسسات الإعلامية لتغطية الحرب نموذج عقد عمل حر يمكنهم اعتماده "لضمان حقوقهم وسلامتهم". يفصل العقد، الذي شاركه التجمع، الفرق بين التغطية في منطقة تعد منطقة حرب في لبنان والمناطق الأخرى، وينصح الصحافيين بتقاضي مقابل مختلف حسب المنطقة. كما ينص العقد المقترح على ضرورة أن تتحمل المؤسسة الإعلامية تكاليف النقل والإقامة، وتأمين معدات السلامة وتوفير تأمين صحي وتأمين على الحياة، وغيرها.
كما أطلق التجمع، الذي تأسس خلال الانتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان عام 2019، ويضم صحافيين "لا تمثلهم نقابتا الصحافة والمحررين"، بالتعاون مع موقع رصيف 22 الإخباري، حملةً لجمع عشرة آلاف باوند (نحو 13 ألف دولار أميركي)، لدعم الصحافيين المتضررين في لبنان جراء الحرب ومساندتهم، "ليستمر صوت الحقيقة في مواجهة الإجرام".
وقال المسؤول الإعلامي في مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز)، جاد شحرور، إن المركز يعزز جهوده لدعم المراسلين في مناطق النزاع خلال العدوان الحالي على لبنان. وأشار شحرور في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "سكايز" يتعاون مع منظمة مراسلون بلا حدود من أجل تأمين معدات الحماية اللازمة للصحافيين (السترات الواقية من الرصاص والخوذات وأدوات الإسعافات الأولية) مجاناً، لافتاً إلى أن 100 صحافي لبناني وأجنبي يعملون بشكل حرّ أو موظفين في مؤسسات إعلامية استفادوا إلى الآن من هذه المبادرة، إلا أن الطلب على هذه المعدات كبير، وكثيرين آخرين لا تزال أسماؤهم على لائحة الانتظار.
كما بيّن أن "سكايز" أطلق برنامجاً لمساعدة الصحافيين الذين دمر العدوان الإسرائيلي منازلهم واضطروا إلى النزوح، إذ يساعدهم المركز في تأمين إيجارات منازل جديدة، واستفاد من هذه الخطوة 15 صحافياً إلى الآن.
وشدّد شحرور على أن أولوية "سكايز" حالياً هي التركيز على سلامة الصحافيين الميدانيين، لافتاً إلى أن 190 صحافياً استفادوا من دورات مخصصة للسلامة خلال التغطية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
هذا وقد دعا المركز الصحافيين والمراسلين والمصورين والطواقم الإعلامية والمحررين إلى حضور ندوة عبر الإنترنت مدتها ساعة، تحت عنوان "التغطية الآمنة من البيئات المعادية"، في 24 و28 و29 (باللغة الإنكليزية) و30 أكتوبر الحالي.
إضافة إلى ذلك، كانت منظمة مراسلون بلا حدود قد افتتحت في مارس/ آذار الماضي، بالشراكة مع "سكايز"، مركزاً إقليمياً لحرية الصحافة في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك "بهدف منح المعدات والمساعدات والموارد اللازمة للصحافيين ووسائل الإعلام في المنطقة، ولا سيما في سياق تغطية الحرب على غزة". وأعلنت المنظمة حينها أن هذا المركز "مفتوح أمام الصحافيين الذين يحتاجون إلى مكان للعمل، علماً أنه مجهَّز بخدمة الإنترنت، كما ستُقدِّم فيه هي وشركاؤها المحليون دورات تدريبية في مجال السلامة الجسدية والأمن والرقمي، وستوفر إمكانية الحصول على الدعم النفسي والقانوني، فضلاً عن معدات الحماية اللازمة للعمل في المناطق الخطرة".
المساهمون