مات بول شيفر (1921 - 2010) على سريره موت البعير، في سجنه في تشيلي، بعد حياة طويلة ارتكب فيها جرائم اغتصاب وتحرش واختطاف واعتقال غير شرعي ومجازر جماعية.
أسس رجل الدين الألماني طائفة خاضعة له، تعتبر ما يقوله هو القانون؛ فهو الحاكم المتحكم بحياتهم، تحت شعار "العيش معاً"، في مستعمرة خاصة بالطائفة في ألمانيا، بين عامي 1952 و1959، ولاحقاً جنوب تشيلي، بين عامي 1961 و2005.
نجح شيفر بما عجز عنه زعيمه النازي أدولف هتلر، إذ استطاع الأول النجاة بمجتمعه المغلق، المكون أساساً من قرابة 300 مزارع ألماني، نقلهم إلى تشيلي بعد فراره من ألمانيا، عشية صدور حكم عليه عام 1959، بتهم اغتصاب أطفال. وعلى الرغم من كثرة القضايا التي رفعت ضده، بتهم الاغتصاب والاعتداء على فتيان مستعمرته، إلا أنه لم يمض سوى سنواته الخمس الأخيرة في السجن.
تروي السلسلة الوثائقية "الطائفة الشريرة: كولونيا ديغينيداد" (نتفليكس)، المكونة من ست حلقات، مسيرة شيفر مدعمة بتسجيلات وصور وفيديوهات من سكان المستعمرة، توضح صعود المستعمرة أيام حكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه، حين كان لشيفر وأتباعه دور كبير بانقلاب بينوشيه عام 1973، وتثبيت حكمه بتهريب الأسلحة وارتكاب مجازر جماعية واغتصاب النساء وتعذيب وإعدام المعارضين السياسيين، إذ كان يختطفهم في المزرعة، ويقتلهم بعد نزع الاعترافات منهم، ثم يقوم بتذويب الجثث، وبعدها يطحن العظام، ويخلطها بالحجارة، ويرميها في النهر، وهذا ما نشاهده موثقاً في السلسلة.
وتقديراً من بينوشيه لدور شيفر، زار المستعمرة عام 1974، ومنح زعيمَ الطائفة امتيازات التنقيب عن الذهب واليورانيوم، وتعهدات لشق الطرق، ما أنعش المستعمرة؛ فبدأت باستقطاب أطفال السكان المحليين.
وبعد قرار حظر الأسلحة الأميركي على تشيلي نتيجة اغتيال المعارض أورلاندو ليتيلير عام 1976 على الأرض الأميركية، تعامل شيفر مع أحد تجار الأسلحة الذي زود بينوشيه بالأسلحة وبمعدات لإنتاج أسلحة بيولوجية، منها منشأة لغاز السارين، أقيمت في مستعمرة شيفر لقربها من الحدود الأرجنتينية، وكان مخططا استخدامها ضد الأرجنتين في الأزمة التي نشأت بين البلدين.
تقوم دعوة شيفر على أسس بسيطة، وهي فصل الأولاد عن عائلاتهم، وفصل الذكور عن الإناث، وفصل المستعمرة عن العالم. وركز على الصبيان بسبب ميوله الجنسية، إذ قام باغتصاب عدد منهم، وكان يحيط نفسه بمرافقين منهم، ويختار خليلاً كل فترة. ونجد في الفيلم اعترافات لهؤلاء الفتية، خصوصاً أن بعضهم ساهموا في إيصاله إلى المحاكم، بينما تجرأ آخرون على الاعتراف بعد سقوطه وتفكيك المستعمرة.
اختار شيفر أتباعه من أرامل الحرب العالمية الثانية وأطفالهن، ولاحقاً الأطفال الفقراء في تشيلي، إذ كان يأخذهم من أهاليهم ويمنع عودتهم إلى قراهم. وكان يركز على التربية الجنسية؛ فمنع الاختلاط الجنسي ومنع الزواج، وكان يعاقب الفتيان الذين يضبطون بممارسة العادة السرية بصعق أعضائهم الجنسية بالكهرباء.
المفارقة تكمن في أن الأطفال كانوا يتدربون كل يوم على الموسيقى والغناء، وكان شيفر يقود الأوركسترا، موجّهاً كلامه لهم: "لا تعرفون إن كنت قد أتيتكم من الرب أو الشيطان".
المفارقة الأكبر تكمن في أن شيفر نجا بجرائمه السياسية، مثل الاعتقال والإخفاء والقتل والمجازر الجماعية، وحوكم فقط بتهم الاغتصاب. وفي شهادة أحد سكان المستعمرة، حفار القبور الجماعية، يقول عن شيفر إنه "كان إلهاً. كلامه كان قانوناً... كان عمّاً أبدياً".
ذكرتني هذه العبارة بالعم السوري الأبدي رفعت الأسد الذي حوكم لا على جرائمه في مجزرة تدمر أو مجزرة حماة، ولا على تهريبه آثار سورية واستنزاف الخزينة السورية، بل على التهرب الضريبي وتبييض الأموال في فرنسا، بعد إقامة طويلة فيها، ليعود أخيراً إلى سورية عماً أبدياً، ليموت على فراشه.
بقي أن نذكر أنه، قبل هذه السلسلة الوثائقية، صدر فيلمان عن شيفر ومستعمرته؛ الأول عنوانه "كولونيا" (2015)، والثاني "بيت الذئب" (2018).