لا شيء يدفع الولايات المتّحدة الأميركية إلى إطلاق أوّل رحلةٍ إلى الفضاء، بعد نصف قرنٍ من السكون، أكثر من برنامج الفضاء الصيني، بحسب ما تنقله وكالة أسوشييتد برس.
اليوم تتصارع وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) مع نظيرتها الصينية على مَن سيقتحم الفضاء بشكل أنجح، ومَن سيعيد الناس إلى القمر وينشئ أولى القواعد البشرية على سطحه.
بحسب "أسوشييتد برس"، يرى القادة الاستخباريون والعسكريون، وكذلك السياسيون الأميركيون، مجموعةً من التحديات الاستراتيجية للولايات المتحدة في برنامج الفضاء الصيني، تذكّر بالسباق الأميركي السوفييتي إلى القمر في ستينيات القرن العشرين، ولا سيما أنّ سرعة الإنجازات الصينية في المجالات المدنية والعسكرية، قد تسمح لها بمضاهاة الأميركيين في استكشاف الفضاء.
في الجانب العسكري من سباق الفضاء، تتبادل الولايات المتحدة والصين الاتهامات بتسليح الفضاء. يحذّر كبار مسؤولي الدفاع الأميركيين من أنّ الصين وروسيا تبنيان القدرات للقضاء على أنظمة الأقمار الصناعية التي تدعم المخابرات الأميركية والاتصالات العسكرية وشبكات الإنذار المبكر.
أمّا في الجانب المدني، فإنّ الولايات المتحدة تشعر بالقلق من أن تأخذ الصين زمام المبادرة في استكشاف الفضاء والاستفادة منه تجارياً ومادياً، ما من شأنه أن ينقل الصين إلى ريادة التقدم التكنولوجي والعلمي، في الفضاء كما على الأرض.
وذكر السيناتور الجمهوري عن ولاية أوكلاهوما، جيم إينهوف، خلال جلسة استماع للقوات المسلحة في مجلس الشيوخ هذا الأسبوع: "خلال عقد من الزمن، تحوّلت الولايات المتحدة من قائد لا جدال عليه في الفضاء إلى واحدةٍ من جهتين متنافستين"، منبّهاً إلى أنّ كلّ ما يقوم به الجيش الأميركي "يعتمد على الفضاء".
في جلسة استماع أخرى خلال العام الماضي، رفع مدير "ناسا" بيل نيلسون صورة أخذتها عربة جوالة صينية كانت قد هبطت على سطح المريخ. قال: "الحكومة الصينية ستنزل البشر قريباً على سطح القمر. يقول ذلك لنا إنّه يجب علينا أن نتحرّك".
تنتظر "ناسا" تحديد موعد إطلاق جديد هذا الشهر أو في أكتوبر/ تشرين الأوّل المقبل من أجل إطلاق رحلتها التجريبية "أرتميس 1"، بعد أن أدّت مشاكل تقنية إلى إلغاء أوّل محاولتين خلال الأسابيع الماضية.
بدورها، تهدف الصين إلى إرسال رواد فضاء إلى القمر خلال هذا العقد، فضلاً عن إنشاء محطة أبحاث روبوتية هناك. وتعتزم كل من الولايات المتحدة والصين إنشاء قواعد في القطب الجنوبي للقمر في المستقبل.
انضمت روسيا إلى برنامج القمر الصيني، فيما انضمت 21 دولة إلى الجهود التي أطلقتها الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى تقديم المبادئ التوجيهية والنظام للاستكشاف المدني للفضاء وتطويره.
تأتي هذه الجهود المتوازية في البلدين، بعد 50 عاماً على رحلة رواد الفضاء الأميركيين "أبولو 11" إلى سطح القمر، في ديسمبر/ كانون الأوّل 1972.
يفضّل بعض خبراء سياسة الفضاء تجنّب وصف ما يجري بأنّه "سباق فضائي جديد"، ويرون اختلافات كبيرة بين حقبة الحرب الباردة في الستينيات، حين أراد الرئيس جون كينيدي التفوّق على برنامج سبوتنيك السوفييتي، ويومنا هذا.
في الزمن الحالي، ترى كلّ من الولايات المتحدة والصين أنّ برامج القمر هي نقطة انطلاق إلى برامج جديدة تسمح باستكشاف واستغلال الموارد والفرص الاقتصادية والاستراتيجية غير المستغلة التي يوفرها القمر والمريخ والفضاء بشكل عام.
عدا عن المكاسب في التكنولوجيا والعلوم والوظائف المصاحبة لبرامج الفضاء، يشير القائمون على "أرتميس 1" إلى إمكانية تعدين المعادن والمياه المجمّدة على القمر، أو استخدام القمر كقاعدة للتنقيب عن الكويكبات، إضافة إلى الجوانب المتعلّقة بالسياحة والتجارة.
بالنسبة إلى الفضاء الأوسع، يمتلك الأميركيون وحدهم عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية، ويعتبرون أنّها تشكّل "اقتصاداً فضائياً عالمياً"، تبلغ قيمته 500 مليار دولار. تقوم الأقمار الصناعية بتوجيه نظام جي بي إس، كما تقوم بمعالجة عمليات الشراء ببطاقات الائتمان، وتساعد في استمرار البث التلفزيوني والراديو والهاتف الخلوي، والتنبؤ بالطقس. وبالتالي، فإنّها تضمن للجيش والاستخبارات الأميركية القدرة على تتبع التهديدات المفترضة.
يرى القائمون على "أرتميس"، أنّ الولايات المتحدة ستندم على التفريط بالمجد وبالمزايا الاستراتيجية الكبيرة، لمصلحة خصومها الصينيين والروس، إن استمعت إلى الآراء التي تقول إنّ مشاريع "ناسا" الحكومية، غير ذات أولوية في ظل المشاريع الفضائية الضخمة التي يقودها ويستثمر فيها عددٌ من المليارديرات الأميركيين، مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس.
يشير تزايد مشاريع الرحلات إلى القمر إلى أنّ "الفضاء سيكون ميداناً للمنافسة على الصورة والهيبة، ولاستعراض خبرات ومعارف تقنية متقدّمة، كذلك سيكون له تأثيره في الجبهة العسكرية"، بحسب أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن، آرون باتيمان.
أضاف العضو في معهد سياسة الفضاء لوكالة أسوشييتد برس: "الأشخاص الذين يدعمون أرتميس والأشخاص الذين يرون أنّه أداة للمنافسة، يريدون أن تكون الولايات المتحدة حاضرةً ومؤثّرة في رسم مستقبل استكشاف الأجرام السماوية الأخرى".
يتوافق كلام بيتمان مع تحذيرات أطلقتها أجهزة الاستخبارات الأميركية هذا العام، خلال تقييمها السنوي للتهديدات: "تعمل بكين لمضاهاة أو تجاوز القدرات الأميركية في الفضاء، من أجل الحصول على الفوائد العسكرية والاقتصادية والهيبة التي اكتسبتها واشنطن من قيادة الفضاء".
كذلك، أفادت دراسةٌ، كلّف بها البنتاغون، الشهر الماضي، بأنّ "الصين تبدو في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة لتصير القوة الفضائية المهيمنة بحلول عام 2045"، واعتبرت ذلك جزءاً من خطّة صينية تهدف إلى "تعزيز الاستبداد والشيوعية على الأرض".
سبّبت هذه الآراء اندلاع اشتباكات كلاميّة متفرّقة بين المسؤولين الصينيين والأميركيين. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان، في يوليو/ تموز الماضي، إنّ برنامج الفضاء الصيني "يسترشد بمبادئ السلام"، واعتبر أنّ "بعض المسؤولين الأميركيين، يشوّهون باستمرار تعهدات الصين البديهية والمنطقية بخصوص الفضاء الخارجي".
قالت "ناسا" إنّ "أرتميس 1"، سيطير على متن أقوى صاروخ صنعته الوكالة على الإطلاق، وأشارت إلى أنّ رحلة المركبة ستدوم 5 أسابيع حول مدار القمر، مع الاعتماد على دمى بدل روّاد الفضاء البشريين.
إذا سارت الأمور على ما يرام، من المتوقع أن يحلّق روّاد الفضاء الأميركيون حول القمر في عام 2024، على أن يهبطوا على سطحه في عام 2025. ومن المتوقع أن يكلّف البرنامج على مدار أكثر من عقدٍ من العمل، قرابة 93 مليار دولار أميركي. كذلك، تعتزم "ناسا" اختيار امرأةٍ ورجلٍ ملوّنين، ليكونا أوّل أميركيين يهبطان على سطح القمر منذ فريق أبولو 11.
يتوقع أن يحلّق روّاد الفضاء الأميركيين حول القمر في عام 2024، على أن يهبطوا على سطحه في عام 2025
ترى "ناسا" أنّ العودة إلى القمر وما يمكن تعلّمه منها، سيساعدان في الخطوة التالية، ألا وهي إرسال رحلات مأهولة إلى المريخ.
على الضفة المقابلة، فإنّ برنامج الفضاء الصيني الطموح يتخلّف بجيلٍ عن نظيره الأميركي، لكن برنامج الصين السري، المرتبط بالجيش، يتطوّر بسرعة ويخلق مشاريع مميزة، يمكن أن تضع بكين في مقدمة رحلات الفضاء، بحسب "أسوشييتد برس".
تمتلك الصين بالفعل مركبة على سطح المريخ، حيث سبقتها مركبة أميركية، والآن يحلّق الرواد الصينيون في الفضاء لوضع اللمسات الأخيرة على محطة فضائية صينية هي الأولى من نوعها.
تحظر معاهدة الفضاء، التي أبرمتها الأمم المتحدة عام 1967، على أيّ دولة ادعاء السيادة على أيّ جرم في الفضاء، أو إنشاء قاعدةٍ عسكرية عليه، كما تمنع نشر أسلحة الدمار الشامل في الفضاء.
قال بيتمان: "لا أعتقد أنّ استثمار الولايات المتّحدة مواردها في العودة إلى سطح القمر، في الفترة التي يتحدّث فيها الناس عن تجدّد المنافسة بين القوى العظمى، مجرّد مصادفة". أضاف: "الزمن وحده كفيلٌ بتحديد استمرارية هذه البرامج الفضائية من عدمها".
من جهته، رأى السيناتور الديمقراطي عن ولاية ديلاوير، كريس كونز، أنّ "المنافسة ليست أمراً سيئاً بالضرورة".
قال: "هل التنافس مع الصينيين يضمن اهتماماً مستداماً وأكبر ببرنامجنا الفضائي؟ بالتأكيد". أضاف: "لكنّني لا أعتقد أنّ هذه المنافسة تؤدّي بالضرورة إلى الصراع. أعتقد أنّها يمكن أن تكون منافسة، مثل الألعاب الأولمبية. وهذا يعني ببساطة أنّ كلّ فريق وكلّ جانب سيندفع إلى الأمام بقوّة وبسرعة. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تستفيد البشرية".