- لم تقتصر مسيرة السعدني الفنية على التلفزيون فحسب، بل تألق أيضًا في السينما المصرية والعربية بأدوار متنوعة تناولت قضايا وطنية واجتماعية وتاريخية، مكتسبًا جماهيرية واحترامًا كبيرين.
- رحيل صلاح السعدني يترك إرثًا فنيًا غنيًا وذكرى لا تُنسى لممثل أثرى الفن العربي بأدواره المتفردة، خاصةً شخصية العُمدة سليمان غانم التي تعد رمزًا للإبداع الدرامي.
تطغى شخصية العُمدة سليمان غانم، في الأجزاء الخمسة الأولى من "ليالي الحلمية" (1988 ـ 1995)، على السيرة المهنية للممثل المصري صلاح السعدني، في كتاباتٍ عدّة غداة إعلان وفاته (19 إبريل/نيسان 2024). فالشخصية تلفزيونية، وثمانينيات القرن الـ20، بامتدادها في بعض تسعينيات القرن نفسه، معقودةٌ على أعمال درامية مصرية تستقطب مُشاهدين ومشاهدات عرباً كثيرين، و"ليالي الحلمية" (كتابة أسامة أنور عكاشة، إخراج إسماعيل عبد الحافظ) تحديداً يصنع إحدى معجزات الإبداع التلفزيوني، قبل سقوط النصّ البصري العربي للشاشة الصغيرة في استهلاك مملّ ومخادع في مقاربة أحوال بيئة وأناس.
يُضاف إلى ذلك أنّ صلاح السعدني (مواليد 23 أكتوبر/تشرين الأول 1943)، في تأديته هذه الشخصية (وأخرى قليلة أيضاً في فترات متفرّقة)، يتألّق في إبراز معنى التحدّي في التمثيل، إزاء ممثلين وممثلات آخرين يُتقنون، هم أيضاً، فنّ التحدّي في إخراج ما في الذات من طاقة وحيوية واحترافٍ ووعي معرفي وجمالي بالشخصية، وبتفاصيلها وموقعها في السياق الدرامي. تحدٍّ يتقدّم المشهد برمّته لحظة مواجهةٍ بين سليمان غانم وغريمه سليم باشا البدري (يحيى الفخراني)، كما في لقائه نازك هانم السلحدار (صفية العمري)، التي يُغرَم بها حدّ الجنون، وغرامه هذا يكاد يكون أقوى من عشقه لسلطةٍ، ومن هيامه في تحطيم غريمه. ولعلّ الدافع الأساسي لهذين العشق والهيام كامنٌ في غرامه هذا بها. كأنّ الثلاثي يصنع من التمثيل مبارزة راقية لإظهار الأجمل والأفضل والأعمق، من دون تغييب الحضور متنوّع الأشكال والمستويات والضرورات لشخصيات أخرى، تُشكِّل ركائز متفرّقة للنصّ وفضاءاته ومساراته.
لكنْ، رغم طغيانٍ كهذا، يصعب تناسي أدوارٍ سينمائية لممثلٍ، ترتبط شهرته بالشاشة الصغيرة، الأقدر على منح أي ممثل وممثلة جماهيرية أكبر من تلك التي يُمكن لفيلمٍ عربي أنْ يمنحه لهما، من دون توقّف نقدي عند مستوى الأداء لممثل أو ممثلة، لهما جماهيرية كبيرة. فالسعدني، بالجماهيرية الكبيرة التي يُحقّقها له سليمان غانم، يتفنّن أحياناً في إبراز خفايا شخصية وتعقيدات تركيبتها البشرية والأخلاقية والحسّية، وهذا غير محصور بالتقلّبات النفسية والانفعالية للعُمدة، وبسيرته اليومية فقط، فشخصيات أخرى له تعاني أهوالاً وانكسارات وخيبات، وتمتلئ حبّاً واندفاعاً وهوساً بالمغامرات، والسعدني يكاد يكون الأقدر على تلبية هذا في كلّ شخصية.
أمّا حضوره السينمائي فدافعٌ إلى محاولة فهم مكانته في أفلامٍ، بعضها يُفكّك مسائل فردية وعامة، في اجتماعٍ وسياسة وتاريخ وعلاقات وتحوّلات. يؤدّي شخصيةً، لكنّ الدور غير مُصنّف "بطولة" أولى أو مطلقة. في المقابل، يصعب وسم أدوارٍ كثيرة له بالثانية، فمشاركته منبثقةٌ من ملاءمته، غالباً، شخصيات تترافق وأخرى في امتلاك واجهة المشهد. كأنّ البطولةَ الجماعية مناسبةٌ له أكثر، من دون التقليل من براعة أدائه، وحُسن امتلاكه هاتين الطاقة والحيوية اللتين تُخرجان ما فيه من أداوتٍ، تمنح الشخصية واقعية أعمق وأسلس، ومصداقية أجمل وأكثر تأثيراً.
أمْ أنّ قولَ هذا انفعاليّ أكثر منه نقدي؟ استعادة سيرته السينمائية كفيلةٌ بتبيان إجابة أصدق، مع أنْ لا ضرر من انفعال يغذّي كتابةً في رحيلٍ.
الأفلام تلك غير متساوية كلّها، فالعاديّ والتجاري والانفعالي ـ الوطني نتاجٌ يوافق صلاح السعدني على المشاركة فيه، فكلّ ممثل يحتاج إلى عمل يُتيح له تواصلاً غير منقطع مع جمهوره، إنْ يكن الجمهور مصرياً أو عربياً، ولا بأس من تنازلات فنية أحياناً. بطولات الجيش المصري مثلاً مادة درامية لأفلامٍ، تبقى انعكاساً لحساسية لحظة، أو لشغفٍ في استعادة "مجدٍ" زائل في راهنٍ موغلٍ في خراب، أو مُنحدرٍ إلى خراب: "أغنية على الممر" (1972) لعلي عبد الخالق و"الرصاصة لا تزال في جيبي" (1974) لحسام الدين مصطفى مَثَلان اثنان على انمحاءٍ للسينما، غير كامل لكنّه موجود، لإبراز مسائل مرتبطة بالنكسة (1967). "زمن حاتم زهران" (1988)، أول روائي طويل يُخرجه محمد النجار، يعاين أحوال بلدٍ يخوض معركة الانفتاح الاقتصادي، عبر تنقيبٍ درامي وجمالي في تأثيراتها المختلفة، بين مكاسب يجنيها فردٌ (أيكون انعكاساً لآخرين، أمْ لجماعات؟)، وخسائر تُصيبه في مَقتل. "اليوم السادس" (1987) يعود إلى زمن الملك فاروق بأسلوب مخرجه يوسف شاهين، الذي يمزج بين تفاصيل شخصية لأفرادٍ، وحالة جماعية تكاد تكون مقارنة سينمائية بين ماضٍ وحاضر. وهذا تفسير مجتزأ لاشتغال أكبر وأهمّ، فهذا الفيلم، الذي يُصبح الأخير لداليدا (1933 ـ 1987)، يتمثّل (الاشتغال) بتفكيك ذواتٍ ومشاعر وعلاقات، وفي الفضاء العام تفكيكٌ لزمن وسلطة.
هناك مثلاً "الزمار" (1985) لعاطف الطيب، عن نزاع بين فنان وسلطة، بعد مطاردة الأخيرة للأول، لأنّ عملاً له يُثير حقد نظام. أمّا مشاركته محمود الجندي وعبد العزيز مخيون بطولة "شحاتين ونبلاء" (1991) لأسماء البكري، المقتَبَس عن رواية بالعنوان نفسه (1955، الطبعة الأصلية الأولى باللغة الفرنسية)، للمصري الفرنسي ألبير قصيري، فدليلٌ على أنّ التمثيل الجماعي، بالنسبة إلى السعدني، أقدر على تحريض جمالية أدائه، كأنّه هنا أيضاً يضع تمثيلاً كهذا في خانة التحدّي الإبداعي.
بعد 10 أعوامٍ على إطلالةٍ فنية أخيرة له، يغادر صلاح السعدني حاملاً في ذاته 81 عاماً، وعناوين كثيرة. رغم هذا، سيظلّ الصوت الصاخب للعُمدة سليمان غانم، كما عفويته البديعة وحماسته القوية وصراعاته غير المنتهية، الأكثر حضوراً في وعي جماعي عربي.